الكتابة هي مزيج من الخيال والخيال ثم هي تُحوّل الواقع إلى حيث تشتهي فيكون ما كان وما لا يكون، فتلك هي الصفحات البيضاء، وهذا هو القلم وهو لا يزال بها حتى تكتسي أبهى الأفكار.
أقوم بكتابة الروايات المختلفة على حسب الطلب على أن تشمل التنازل عن جميع الحقوق متى كان الاتفاق والله ولي التوفيق
نموذج
توارت الشّمس خلف الدّور، وأسبل الليل إزاره ليغطي بدن المدينة. بدأ السّواد يتعانق مع الصّمت ليرسما مجتمعين لوحات قاتمة بين الشوارع التي هجرها مستعملوها في انتظار الصباح. لم تفلح المصابيح المعلّقة على جنبات الطّرقات في إعادة وهج الحياة رغم محاولاتها العديدة. من بعيد، كانت الأضواء تتلألأ بألوان شتّى كعقد عروس تزفّ إلى من تحب. النسمات عليلة تنعش قلّة من المتأخّرين الذين طردتهم الحاجة إلى خارج البيوت. تتقابل السيارات عند المنعطفات وتلقي على بعضها تحيّة المساء قبل أن تختفي في غير عجل. على الطرف الغربي للمدينة، كان طيف يتمشّى على مهل مستندا على عكاز عتيق، كان ثقيل الخطى بطيء الحركة، يرفع رأسه نحو الصحراء ويستظهر المباني التي لم يعد يجد غير نتن ريحها، يسير نحو المجهول مخلّفا وراءه كل علامات الحضارة. من حين لآخر، يقف لحظات قليلة ليلتقط أنفاسه فيُسمع صوت الزفير والشهيق وهما يتعاقبان على مجرى الهواء بمشقة، كانت الأيام قد بسطت سطوتها على العجوز وأرسلت جيوشا من التجاعيد لتستقر على الناصية حيث تتدلى خصلات خفيفة من شعر أبيض يوحي أن صاحبته أدركت الثمانين. الأنف معقوف حتى يطلّ كفضولي يلقي تحية أبدية على الشفة العليا التي لم تعد تتطابق مع السفلى، وبات بينها تخاصم يجعل الأسنان المتفرقة بارزة. تقوّس الظهر وبدت العجوز وهي تسير كراكع قانت في صلاة بلا نهاية. الذراع اليسرى ملقاة خلفها، أما اليمنى فتمسك العكاز الذي لا تبدو حالته أحسن من حالة صاحبته. تلتقط الأنفاس ثم تبدأ الأقدام المتعبة في الإتيان على الطريق الطويل. تسير بغير وجهة حيث لا ترى علامة تهدي إلى مكان، ولا تستقبل غير بحور من رمال تبدو وكأنها أمواج تتلاطم غير تاركة مجالا للحياة. طردتها قسوة المدينة ووجدت العجوز في الفضاء الممتد ملاذا، فإن لم يجلب لها السعادة، فعلى الأقل لن يحمل عليها من الحزن ما تحمله الدور وأهلها. حين لم تعد القدمان قادرتان على مزيد من السير، اضطجعت العجوز وأرسلت الأفكار لتركب كبسولة الزمن عائدة إلى الزمن السحيق...