مازال یلازمها ذلک الشعور الخانق بأنها لا تنتنمی إلی هذا العالم ، قد یجمعها بساکنیه الصفات الجسدیة والخصائص الفسیولوجیة ،أما روحها فلا ...
راحت عاصفة من التوهان تضرب رأسها وتزلزل فکرها …تری ما هو موطن روحها ؟!
أتراه جسد العصفور الأنیق ؟ الذي يوقظها صباحا فتزيل ستار نافذتها تراقبه من نافذة غرفتها.
حتما لا.. فهذا العصفور یکسوه ریشا زاهیا أما هي فملابسها دائما داكنة تميل للسواد!
تشعر بالراحة في هذه الملابس حتى لاتلفت إليها الأنظار.
أم أن موطن روحها هو تلك الزهرة البنفسجیة فی حديقة الجامعة؟ فكلما ضجرت من تصفح محاضراتها تنظر إلى تلك الزهرة الحزينة فهذه الزهرة تتوارى بين أوراقها الخضراء كما تتوارى هي بين الناس.
مهلا.. إن الفراشات تلقي علی بتلات البنفسج القبلات جیئة وذهابا وهي تجلس وحيدة وتأكل وحيدة ولا يلحظ وجودها أحد!
وفي المساء عندما همت لتغلق نافذة غرفتها، لاح لها نجم لامع بعيد، النجوم في عالمنا يتبعهم المعجبون أينما حلوا؛ ولكن النجوم في السماء بعيدين … بعيدين جدا تماما كما هي بعيدة.
آه من حیرتها ! … ویا لسخطها علی هذا العالم!
ذلک العالم الذی حاکمه النفاق وعملاته الرائجة هی الغش والخدیعة وحارسه الظلم وسبیل الأمان فیه هو الخوف.
اللعنة على ذلك الشعور الخانق!
فكأنه شبح أسود اللون يسكن عقلها ويقتات على فكرها ولا تستطيع الخلاص منه، لم تعد تدري معنى الإحساس بالسعادة فقط حزن شديد يكسو روحها ولم تجد جلسات الطبيب النفسي التي امتد لساعات نفعا ولا عقاقير وصفته المضادة للاكتئاب المخبأة في خزانتها خشية أن تعثر عليها والدتها.
الأن ستضع حدا لکل هذا … اخرجت المشرط الذی طالما تمنت أن تعالج به جراح مرضاها بعد تخرجها ولکن لتنهی به جراح روحها الحبیسة لتحررها، فتوجهت به نحو الشریان النابض فی یدها لتحیل ملاءتها البیضاء الی الأحمر … لیخرج ذلک السائل الأحمر مهدئا لحیرتها ومعلنا عن تحرر روحها .
وفي صباح اليوم التالي لم يغرد العصفور ولم يجد حبات الأرز التي اعتادت وضعها له عند النافذة. واشتعل رأس زميل دراستها شيبا فكم أخذ يجلس على المقعد المقابل لها في حديقة الجامعة فيختلس النظر إلى عينيها البنيتين وهي تراقب البنفسج والفراشات ولا يجرؤ على الاقتراب منها كالنجمة البعيدة.
ولم يع الطفل الصغير في أول شارعها الذي يساعد والده رص حبات الطماطم أن هذا النعش الذي يمر أمامه يحوي جسد الفتاة اللطيفة التي اعتادت أن تعطيه قطعة الشيكولاتة بعد عودتها من الجامعة.
واعتصر قلب والديها حزنا على صغيرتهما التي لطالما كانت مصدر فخرهما وفرحتهما منذ أن أتت إلى الدنيا وها هو يواري التراب جسدها.