تفاصيل العمل

كانت الأمواج فى ذلك اليوم عالية تتسابق لضرب رمال الشاطئ و كان الشاطئ يعج بالمصيفيين عندما همس فى أذن زوجته:

-يبدو أنني سأظل أحبك بنفس ذات اللهفة التى أحببتك بها أول مرة إلى الأبد ،

هل تتذكرين ذلك اليوم ؟

وتلاشى نظرهما إلى ذلك الركن من الزمن حيث تبدأ الذكريات كشرر صغير و أجابت:

ـ بالطبع أتذكر حين كنت جالسة فى ردهة مبنى الكلية

الطويلة، وكانت الردهة هادئة تماماً ليس بها سوى ذلك العامل الريفي الذى تراه كل يوم فيها كأنه أصبح من ديكور المكان.

ضحك ضحكة طويلة ثم قال مبتسماً:

نعم، كنت فى ذلك اليوم أمشي باحثاً عن مكان هادئ بعيداً

عن صخب التجمعات الطلابية و نكاتهم السخيفة، وحين استدرت إلى الردهة رأيتك تجلسين فى هدوء ، فدنوتُ منكِ وجلست فى المقعد المجاور لكِ ، و بدأ بيننا حوار طويل ، حين رأيتني أداعب قطة جائت لتجلس بجانبي فسألتي فى إعجاب:

ـ هل تحب القطط أيضاً؟

ـ فحين أدرت رأسي و رأيت تلك اللمعة الساحرة فى عينيك لم أستطع الحديث لبرهة ثم استجمعت كلماتي و أخبرتك أني أمتلك قطة وأحب الإهتمام بها للطفها و أنفتها ، ومنذ ذلك اليوم دارت بيننا أحاديث كثيرة أنتهت بزواجنا و ها نحن ذا جالسين معا بعدما أصبحنا زوجين ولدينا طفلة صغيرة قادمة بعد ستة أشهر ، ولا نزال نتذكر تفاصيل هذا اليوم .

كانا قد قدما إلى الإسكندرية ليقضوا الصيف الأول لهما ، كما هى عادة العرسان الجدد ، وعندما كسرت رطوبة هواء العصاري قيظ الشمس الحارق ؛أمالت رأسها على كتفه و قالت بصوت يلثم الرغبة :

ـ الجو لطيف ونسيم الغروب وشعاع الشمس الذي يلامس صفحة الماء يشعراني برغبة عارمة فى النزول إلى الشاطئ!

فحملها و نزلا إلى البحر سوياً، كانت تجيد ببراعة المشي على الرمال فتبدو و كأنها تسبح، وكان هو لا يجيد إلا نوعاً واحداً من السباحة ألا وهو "سباحة الكلاب" بحكم أنه لا يجيد الاسترخاء ولكي تكون سباحاً عليك أن تسترخي وهو أمر يفشل فيه دائماً

مر رجل يهتف بصوت جاف : الذرة مشوي على الفحم!!

طلبت منه ،فى لطف، أن يذهب ليبتاع كوزين من الذرة بدلاً من هذا العبث الذي يفعلانه ، فراقت له الفكرة ، وقف أمام عربة الذرة و طلب من الرجل فى نهم أن يعطيه اثنتين وبينما يضع يده فى جيبه تذكر أن محفظته تحت الشمسية ، فستأذن الرجل وانصرف لكي يجلب المحفظة_ وبلمحةٍ واحدة انقلبت اللحظة.

أدرك أن المكان فارغ بعدما التف. لم تعد واقفةً في المكان الذي تركها فيه منذ دقيقة. التفت، بحث بعينين صارختين، ثم هزّ رأسه في حركةٍ لا تعلم ماذا تعني سوى أن الهواء أصبح أثقل. مرّت الدقائق كحجارة تُلقى في ماءٍ صُمّ. نزل إلى البحر يبحث في كل اتجاه، ينادي باسمها بصوتٍ ينفصل إلى أصداء، وكلما علا صراخه جاءه الجواب: موجٌ يبتلعه.

رأى من بعيد سواداً يتحرك ويختلط بالخطوط البيضاء للأمواج. صرخة مكتومة اختنقت بين الحفر المائية. تعرف على الصوت قبل أن يصل الشكل: تلك نبرة تلفظ اسمه في المرة الأولى التي قالت فيها «أحبك». تتابعت الصور بسرعةٍ مقطوعة: يد تمتد وتغوص، وشعر يختلط بالرغوة، ووجه يلمع كقِشرةٍ بيضاء تحت الضوء الضارب. حاول أن يسبح لكن كل خطوة كانت تنزلق من تحته كما لو أن البحر يسرق قوته.

و أجتمع الناس على الشاطئ يحاولون إنقاذها ، بعضهم يركب على عوامته ويحاول بلا فائدة و بعضهم يلهث ويحاول الإقتراب ، وعندما وصل منقذ الشاطئ كان المشهد قد أكتمل، لفظتها الأمواج جثة تسبح بلا إرادة ، قد فات الأوان ، غرقت حبيبتك و دهستها الأمواج العاتية بينما أنت واقف تشاهد موتها ولا تستطيع رده عنها ، صوتها تقلب مرة واحدة ثم أنطفأ ،كان عليك أن تموت معها ،توقفت الدنيا عن دقاتها بالنسبة له. تذكّر بيت المتنبي يتردد في رأسه كأنه حكمٌ نهائي: إذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تموت جباناً.

لم يستطع أن يصرخ بعد ذلك، لم يستطع أن يتحرك. ظل واقفاً، لا يرمش له جفن، يضع يده خلف ظهره، والموج يضرب وجهه بصمتٍ لا يرحم. الناس هتفوا، وبعضهم بكى، وبعضهم حملوه بعنف من المكان إلى حيث لا تعود الصور. وهو لا يزال ممسكا بتلك المحفظة التي لم يعد لها معنى.

و منذ ذلك اليوم وهو يتجول طوال اليوم على الشاطئ لا يكلم أحد ولا ينظر لأحد و فى نفس الموعد و نفس المكان يقف واضعا يده خلف ظهره مستقبلا الأمواج العاتية، و كأن الزمن توقف عند هذه اللحظة. يمر الناس وتختلف حياتهم، لكنه وحده يتكرر: نفس الموقف، نفس اليدان، نفس الانتظار الذي لم يعد ينتظر.

بطاقة العمل

اسم المستقل
عدد الإعجابات
0
عدد المشاهدات
2
تاريخ الإضافة