لا تزال الشمس حارة على رأسي الذي تحول لقدر يغلي، أحيانا أتخيل مخي أصبح حساء، وأنا أتناوله بنهم، بسبب الجوع، ولربما الجنون الذي أنا على حافته أرقص قريبا..
عباءتي السوداء، أصبحت باهتة بسبب شمس الأيام المتتالية -أقصد الأشهر- دون أن أجد ملابس أخرى، أما شعري أسفل الحجاب، كتلة زيتية واحدة، أحاول ألا أفكر فيه كثيرا..
أتذكر لوم أمي لأني كنت أغسله كل يومين، أخبرتني كثيرا أنه كثرة الغسل ستسقط الشعر قبل زواجي، في النهاية سيأخذني زوجي صلعاء الرأس..
نظرت إلى أمي وأنا أقول:
- من كان يعتقد أني سأموت قبل أن يصبح رأسي أصلعا ..
لم تجبني هي، ابتسمت وأنا أهمس لها بتفائل:
- شارفنا الوصول للشمال.. لم يكن علينا التأخر على شاحنات النزوح.
شعرت بحرارة تحت إصبع قدمي، أنزلت عيناي وأنا ألهث، انظري لقدمي المتشققة والمتسخة، كانت تلك السخونة هي للدماء، أعتقد أني دست على آلة حادة..
لمحت من بعيد، طائرا صغيرا في الأرض، جررت قدماي ناحيته، لربما لا يزال حيّا، يقاتل وسط كل هذه الأهوال، من أين أتى، فلا أشجار هنا، أم أنها كانت وسوّيت بالأرض؟
اقتربت وأنا أقرفص، لم يتحرك، هل كسرت أجنحته الرقيقة؟
شعرت بغصة في قلبي، تذكرت الطيور التي كان يطعمها والدي في الحديقة الخلفية، كان يحرص كل فجر بأن ينشر حبات القمح لهم، ثم يحنّ عليهم وكأنهم أبنائهم..
دائما ما كنت أتذمر بسبب الفضلات التي يتركونها، مرت دموعي، مسحتها وأنا أتمنى أن يكون أبي مع طيوره في الجنة، يتنعمون بوعد الله للشهداء..
ارتعشت اصابعي ويدي تقترب من الطائر النافق، أمسكته بيدي..
شخصت عيناي وأنا أرى نصفه السفلي غير موجود، كانت أتربة انهيار المباني تغمره، في جزء سريع من الثانية، رأيت الدود يأكل تجويفه، ديدان تتزاحم وتلتوي وتدور دون هوادة..
رميته من يدي وأنا أصرخ، شعرت بالغثيان، عصرتني معدتي..
كان مقززا، لكن جزء من عقلي أخبرني أن مصيري مثله على أي حال..
اختلط الاشمئزاز والحزن داخلي كسمفونية غير مكتملة..
نهضت وأنا أمسح يدي في عباءتي باستمرار، يدي نظيفة، لكني أشعر بالدود يتحرك فوقها..
ظل اصبعي يحرقني، لكني تجاهلته.. الوقت ينفذ.. أمسكت أمي، وذهبنا..
أين وصلت؟
لا أعلم.. من رفح إلى جباليا..
الآلاف الخطوات..
أتذكر حين كنت أسمع نصائح المدربين الرياضيين، بأن عليّ أن أتمشى كل يوم، لخطوات معدودة..
قبل الحرب، وفي منزلي الهادئ والواسع، عجزت يومها على تجاوز ألف خطوة..
أما الآن.. أصبحت أطوي الأحياء والمدن، همست:
- هيا يا أمي..
حاولت أن أحثها على أن نمشي أكثر، رغم شعوري بالثقل، لكن فكرت أن أرتاح قليلا، فجأة سمعت أزيز الطائرة فوق رأسي وقد أصم أذنايّ، فبدأت أهرول، ثم أجري..
لقد تمنيت أن تقصف جسدي أي طائرة كانت، وأن أرتاح من كل هذا العذاب والفقد، لكن ما إن أشم عفونة الموت، حتى أبدأ بالتشبث في الحياة مجددا.. والركض لإنقاذ نفسي..
اختبأت قرب الجدار المنهار، لمحت فستان زفاف تحت الركام، لمنزل أحدهم هنا.. وهنالك دمية أطفال.. أشحت بعينيّ، أشم رائحة الموت..
نبض قلبي يرتفع مع حركة الطائرة التي حلقت طويلا، دقائق كثيرة، وكأنها سنوات عجاف لا نهاية لها..
اهتزاز الأرض أفجعني وكأن قلبي سيخرج من حنجرتي، قررت أن أفترش الأرض، وضعت صدري على التراب الذي شعرت ببرودته تسري بأطرافي..
كان قلبي يدق مع الأرض..
فجأة، أخدتني الذاكرة اللعينة، إلى مرحلة قديمة من حياتي، حين كنت طالبة في الصف، اشعر بالملل والتعب، والأستاذ عبد الله يدور بيننا في الفصل وهو يردد بصوته الأجش، فصلا من فصول رواية "رجال من الشمس" للكاتب غسان كنفاني:
- بدأتِ الأرضُ تخفقُ من تحته: "ضَرَباتُ قلبٍ مُتعَب"؛ ليُدلّل على التِصاقِ القلبِ بالقلب، فقلبُه الحقيقيّ يحنّ إلى قلبِه الأرض
ضجت الجملة في عقلي حرفيا، لم حضر هذا الحدث الروائي في عقلي الآن؟
قلبي أيضا متعب..
التحام قلبي مع الأرض الآن، يجعلني أشعر حرفيا بما شعره آنذاك شخصية أبو قيس، حين وضع صدره على أرضه المفقودة..
أرضه التي هي أرضي..
لما يا ترى حين سمعت تلك الجملة آنذاك في تلك الفترة من عمري، شعرت أن أبو قيس يعيش في عالم ظالم مختلف، وأنه ما كتبه غسان حينها ما يعدو أن يكون كتابة درامية، أو أنها حقبة كتبها الكاتب وولت وطواها التاريخ..
لماذا شعرت بأن ما عاناه الأبطال في تلك الأحداث، لن أعيشه ولا يهمني..
لم بعد مرور عقود من تلك الكتابة، أجد الآن نفسي أعيش كل تلك الأحداث بنفس التفاصيل..
تمتمت وصدري على الأرض، وأزيز الطائرة لا يزال فوقي:
- رحمك الله غسان، مرت 6 عقود، لا يزال الوضع كما هو، إن لم يصبح أسوء..
للحظة، ما بين رائحة الدم العنفة التي تصاعدت أكثر مع الحرارة..
أزيز الطائرة، حريق قدمي، ضجيج أفكاري الذي بدأ يمتد من جديد إلى أمور غيب ووجودية إنسان وغاية خلق البشر و..
قد تصل بالإنسان للكفر في لحظة يأس.. لكن هيهات.. ليس علينا نحن أبناء غزة..
الإيمان رفيق الروح هنا، على الرغم من كل الأهوال والكوارث..
الإيمان راسخ، شعرت بالارتخاء..
تلوت بخشوع:
- وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين، وتعلن علوا كبيرا..
بدأت الآية تجعل الهدوء يسري داخلي..
معها أزيز الطائرة خف، وشعرت أن جسدي أكثر خفة، وابتسامتي تشق وجهي..
أغمضت عينايّ بسبب الغبار الشديد الذي ظهر فجأة..
من أين؟
قررت ألا أفتح عينايّ لا أريدهما أن تصابا بتلوث يجعلني شبه عمياء، والطريق طويلة لأتبعها..
صحيح.. فقد سمعت أن هنالك تجمع خيام وطعام في الشمال، وأريد أن أصل لهناك في أقرب وقت، الجوع أنهكني.. همست وأنا أزال أغمض عيناي:
- أمي.. أنا أشعر بالجوع وأنت؟
بعد سؤالي، هدأ الجوع، ومعه الغبار هدأ أيضا واختفى..
ثم فتحت عينايّ، ولا يزال صدري على الأرض، هناك بعيدا.. استقرت ذراعي اليمنى، في حين تفتت ساقي.. ابتسمت وأنا أملأ صدري بالهواء، لا أعرف كيف ذلك، لكني همست:
- الحمد لله..
على الأقل الكيس الأبيض الذي فيه أشلاء أمي، ورافقني في رحلتي لأيام، رغم أن رائحة عفونته تطغى في الجو، لا يزال قربي على يسار جسدي السالم....
انظر ليمين جسدي، فقد غازلته القنبلة التي سقطت توّا وأحدثت زوبعة الغبار..
غريب أن يضايقني الغبار في عيناي، لكني لم أشعر بآثار الضربة التي نهشتني الآن..
لكن الأهم.. الكيس الذي فيه أمي لا يزال جيدا.. أمي لم يأكلها الدود كذلك الطائر الحزين..
لم يفعل بعد..
زحفت، ثم بدأت بجمع أشلاء أمي العزيزة بصعوبة، أو بالأحرى بعض الأشلاء لا غير، يكفيها المسكينة أن تظل في الكيس..
الآن..
مجددا اصبع قدمي يحرقني، بدأت أشعر بعبثية الموقف برمته، ذراعي وساقي المفقودتين لا ألم بهما، لكن اصبع القدم يحاول جاهدا لفت الأنظار..
مرت دمعتي حارة..
ليس لأجلي، أو لأجل أمي، أو فقدان أرضي، أو عملي، أو خطيبي، أو..
مجددا تذكرت نهاية الرواية التي درست فصولها وأنا لا أزال في الثانوية..
الرواية التي قصتها تدور حول رجال غرباء، توفي الثلاثة في خزان الشاحنة بسبب رغبتهم بالهروب السرّي إلى الكويت، استغرب المهرب حين وجدهم جثث هامدة بعد أن ألهبتهم الشمس..
- "لماذا لم يطرقوا على جدران الخزان؟ !"
جددت الآن نفس سؤال الرواية، ثم رفعت يدي السليمة، وطرقت على الأرض:
- نحن أبناءك، دعينا نعود إليك على الأقل، ضمي أجسادنا، ولا تجعلينا أشتات وأشلاء لا قبور لنا ولا هوية.. مجهولين تماما..
طرقت مجددا على الأرض:
- لم يكن عليهم طرق جدار الخزان.. الأسلم طرق جدارك يا أرضي..
ساد الصمت، ورحلت الطائرة.. لكني كنت دائما على أمل..
وأنا سعيدة الآن أن حقي مكفول بالموت على الأرض على الأقل، أفضل من خزان وصحراء وطن شقيق لا يعرفك..
بكيت:
- أمي.. ستذوب أجسادنا.. وتحتضننا الأرض من جديد.. ونذوب مع كل ذرة تراب، وسنحيا من جديد كأغصان زيتون يانعة..
مددت يدي اليسرى للكيس، ونفضته بتعب وأنا أرى الأشلاء تتناثر، لربما كانت أمي تريد احتضان الأرض أيضا، لا ضمها في كيس بارد..
كانت لا تزال نفس الشمس ترخي بأشعتها عليّ أنا الفتاة المجهولة..
أحزنني أني سأموت دون أن يعرف عني أحد، دون أن يبكيني أحد..
دون أن يكون لي لا عزاء ولا قبر..
كنت أرى أقربائي الذين كتبوا على أكياس جثثهم أرقاما، وكأن لا اسم لهم ولا هوية..
أرثي نفسي الآن، بتّ أسوء منهم حتى، دون اسم ولا رقم حتى..
في النهاية..
الآن أودع كل شيء..
عيني تدمع وأنا أشعر بحرارة الشمس..
نفس الشمس التي أذابت أجساد رجال غسان منذ عقود..
بقلم الكاتبة عفاف منيحي