قصة قصيرة - من صاحب الأرض والحق؟-

تفاصيل العمل

أصدر جهاز الاتصال اللاسلكي، صوتا مزعجا، أيقظني من نومي المتقطع، انتفضت وأنا ألهث، ثم تمسكت بالبندقية التي كنت أحتضنها، بشكل لا شعوري، الفتت يمنة ويسرة، أنا لا أزال في المنزل المنهار، دلكت عيناي بتعب، لا أعرف كم سيدوم هذا الهراء..

بلعت ريقي وأنا أسمع أي صوت، قد يخرج أي مخرب معتوه من أي حفرة كجرذ ويطلق عليّ النار، عليّ أن أبقى متيقظا..

مجددا أصدر الجهاز الاتصال اللاسلكي صوتا، وهذه المرة كان واضحا:

- رائيل.. التحديث رجاء..

ارتعشت، وأنا أمسكه مقربا إياه إلى شفتاي:

- رائيل، الوحدة 711، الساعة الحادية عشر و5 دقائق، اليوم 18 أكتوبر 2024، أنا لا أزال في المنزل المنهار بجانب الدبابة العسكرية، الثكنة رقم 4، ليس هنالك أي حركة، المكان بعد التفتيش لا مخربين به، ثم لا مدنيين، المكان تم إخلاؤه تماما..

زفرت بتعب وأنا أنهي التحديث..

بالطبع ليس هنالك أي أحد هنا، فعلى بعد 600 متر من مكاني، تم إيجاد السنوار وقد توفي، ذلك الرجل ال** ..

لا أعرف بما أصفه حتى، هو عدو، لكني احترمته بطريقة ما، لكن الطريقة التي توفي بها، جعلت هنالك أمرا غريبا ينبت في صدري، لا أتحمله البتة، منذ يومين وأنا لم أنم ولم يغفو لي جفن ابدا..

منذ وقوفنا ونحن نشعر بالحوف والهلع بعدما انتشر في المكان، أخبار أن السنوار تم قتله، والمخزي أنه بالصدفة، لا بتخطيط أو بذكاء، كما كان يقول القادة..

بلعت ريقي، ثم تلمست في الأرض، مكان الكوب الساخن، ارتشفت الكأس السادس من لقهوة، رغم تعبي..

كلما أغمضت عيني، أرى جمجمة السنوار المفتوحة أمامي، حينما كان يتم النبش على هويته، بعضهم لم يصدق، ومنهم أنا..

كيف يمكن لرجل شابت له دولة بأكملها، بان يموت بتلك الطريقة..

غريب.. غريب...

لما تحركت عاطفتي خين رأيته بتلك الطريقة؟

لما دبّ الخوف داخلنا جميعا، رغم أنه كان جثة لا غير، حتى قائد الوحدة، كان يرتعش ويتصبب عرقا وهو ينظر إليه غير مصدق، ثم يردد:

- علينا التأكد حين يتم التشريح...

تأكد التشريح، ونحن لسنا بمصدقين.. خاصة حين تم كشف لقطات ما قبل موته، بيني وبين نفسي، ودون أن يعرف أحد..

خفق قلبي وأنا أرى تلك الجلسة الملكية وهو يرمي العصا بتلك الطريقة الشجاعة..

وتساءلت في نفسي..

لماذا لم يمت أحدنا بتلك الطريقة، التي تجعلنا نفتخر كأصحاب الأرض والحق، لماذا لا نجد ما يدعم موقفنا أمام العالم..

منذ سنة، يتم وصفنا بالحقارة والسوء، والهمجية والوحشية..

خسيء العالم، لأنهم ينعمون في أراضيهم، ومنازلهم، وحين رغبنا باسترجاع ما لنا، أصبحنا الشرير في الرواية..

شعر بالقهر، والدموع تجمعت، لو رآني القائد، سيصرخ في وجهي..

بدأت أبكي.. تعبت، هزلت.. ضمرت..

جسديا.. ثم نفسيا..

حتى نفسي وعقلي وروحي، يقامون، وأنا أحاول إقناعهم، بأنني أنا وقومي في الطريق الصحيح..

لكن لما يحصل السنوار على تلك النهاية المؤثرة، إن كنا نحن الأحق بالأرض؟

أم أن ما تم تلقيني به منذ 7 سنوات حين دخلت العسكرية لا يعدو ترهات لا غير..

بكيت بحرقة، وأنا أرتعش، تحققت من جيبي، عليّ شرب الحبوب المهدئة، وسيعود الوضع طبيعيا، هذه الأفكار بسبب التعب لا غير..

أنا متأكد..

رفعت ذراعي، اللباس العسكري يعقيني، لكنتي عانقت نفسي وأنا أحاول أن أشكرني على التحمل..

هذا ما أخبرتني به راشيل طبيبتي النفسية..

وزوجتي في نفس الوقت..

لكن من كان يظن أن الطبيبة النفسية نفسها، ستعاني من الاكتئاب، بعد ثلاث حالات إجهاض، وابتعادي عنها بسبب الحرب..

كل شيء لم يعد في مكانه..

ثم غفوت.. يبدو أن الحبة بدأت مفعولها..

عادت بي الذاكرة قبل سنوات، حين كنت أفترش اسمنت أثينا البارد، بعد أن كنت مدمن خمور، وتم طردي من العمل، وبلا أسرة ولا معيل، كنت..

حينها فتحت عينيّ فجأة، وأنا أسمع:

- يا متشرد..

أحسست بالبرودة في أطرافي، لكن هنالك رائحة زكية أزكمت نفسي، دفع الغريب إلى بصحن وهو يقول:

- إنه حساء، تناوله..

لم آكل منذ أسابيع طعاما محترما، منظر الصحن والجبن السائح، جعل كل حواسي تتيقظ، جلست، وبدأت بصبه ساخنا في جوفي، وأنا أشعر بالحرارة تستعر داخلي..

كانت الحرارة أهون من الجوع.

- هل أنت تذهب للكنيس اليهودي كل يوم؟

أخذت يداي وأنا أضعها تحت إبطي، أومأت بالإيجاب، جلس الرجل بجانبي ثم تنحنح وهو يقول:

- اسمك رائيل، إذن أنت يهودي بلا شك..

زممت شفتاي، ماذا عليّ أن أقول؟ أنا بالكاد لا أعرف ما اليهودية، ولا علاقة لي بها إلا انها موروث لم أستفد منه البتة..

أما ذهابي إلى الكنيس، كان لأجل الطعام.. لكني قلت:

- يهودي..

أضاء وجه الرجل بشكل غريب تحت الظلام، وهو يمسك يدي:

- أنت أخ لي إذن.. هيا بنا..

جرني كجرو متشرد، تبعته طبعا، فالكلب دائما ما يتبع مُطعِمه أيً كان..

وقفنا بجانب الإنارة، ولمحت القبعة الدائرية فوق رأسه، خرج الدخان الساخن من فمي، وشعرت بالقشعريرة..

كان برد أثينا هذه السنة قويا، وضع الرجل يده على كتفي وهو يقول:

- نحن اليهود، لا نترك بعضنا، خصوصا إذا كنا في محنة، وبالطبع أنت أخ لي، سأعرض عليك عرضا، وفكر به..

نظرت إليه باستغراب، ماذا يريد؟

بيع أعضائي؟ أم ماذا؟

أكمل الرجل:

- وظيفة، ومنزل، وراتب، وكل ما تتمناه يمكن أن يأتيك..

- والسبب؟

- أنك يهودي..

- ماذا تقول يا رجل؟

نظر لي:

- عليك ببساطة أن تذهب إلى إسرائيل، كل يهود اليونان ذهبوا، ألم تسمع بالأمر؟ لماذا أنت تعيش ببلد ليس بلدك، والحال أنه يمكنك الرجوع إلى بلد أجدادك الذي استطعنا استعادته بدماء إخوتنا..

لمعت عيناي وأنا انظر إليه، أكمل:

- هنالك الكثير من المخططات الإسرائيلية لبلادنا، لأجل أن يتم جمعنا، بدل أن تظل هنا في شوارع أثينا، جائعا، متشردا، دون مأوى ولا طعام، سأعينك، لأجل أن تعود لمكانك الأصلي..

تمتمت:

- لكن اليونان بلدي، أنا ولدت هنا، ووالدي يوناني، وأمي يونانية، منذ زمن..

هز الرجل راسه بعصبية:

- نحن إسرائيليون، لكننا كنا ضائعين، والآن وجدنا بلادنا وسنعود، اليونان بلدك المؤقت..

ثم بعد أسبوع واحد..

وجدت نفسي في تل أبيب، وفعلا كما قال ذلك الرجل المنقذ، وجدت مكاني الأصلي، لم أصدق حينما أعطوني بيتا واسعا، وهوية، وكل ما أحتاجه..

ثم وصلتني رسالة بضرورة التجنيد الإجباري، لم يعجبني الأمر..

لكن مقابل ما أخذته، فهذا عادي..

ثم تعرفت على راشيل حبيبتي، تزوجنا.. ثم ..

أنا هنا في غزة، اقاتل لأجل بلدي..

بشكل غريب، ورغم الحبة المهدئة، قال لي صوت غريب:

- لكنها ليست بلدك..

رفعت بندقيتي في الظلام، لا أحد هنا..

هل كان ضميري الذي يتحدث، لعنته بشدة، ما إن يبدأ الحديث ومعه تظهر صورة السنوار، ضربت بقوة رأسي كي تخرج الصورة اللعينة، لكنها لم تفعل، بل تعيد نفسها مع كل رمشة عين وومضة ذاكرة..

هل أشرب حبة مهدئة أخرى..

قبل أن أنهي السؤال، كانت الحبة الثانية تستقر في جوفي، افرغت عليها القهوة الساخنة، علمت توّا ما سيجعلني أهدأ..

بدأت أبحث في جيوبي، ثم وجدت الصورة الصغيرة..

التي بها ابني شمؤيل وهو يبتسم، ممسكا جرو البيت، ابتسمت وسرت داخلي الراحة، محق من قال أن الابتسامة معدية..

سأعود للبيت قريبا، وأعانق طفلي ذو ثلاث سنوات، سأذهب أنا وراشيل لرحلة في أوروبا، كي تغير نفسيتها..

وتصبح أكثر صحة، فهي مصرة على ولادة فتاة صغيرة تضيف لنا الحب للأسرة..

لكن الأحداث والحرب، جعلتها في كرب شديد، حتى الإجهاض اللعين يأزم الوضع..

وضعت الصورة على قلبي، سأعود يا حبي، بعد أن أكمل واجبي..

- أين واجب؟ أهي أرضك حتى؟

انتفضت وأنا أبحث عن مصدر الصوت، لا يمكن أن أتناول الحبة الثالثة، لكن الصوت اللعين لا يخرج من عقلي..

تنفست وأنا أشم رائحة الفجر، يبدو أنه اقترب موعد الإفطار، عليّ البحث عن أي معلبات، تذكرت خواتم وعقود الذهب التي وجدتها في أحد المنازل البارحة، كم يا ترى سعرها إذا بعتها في تل أبيب بعد عودتي؟

مع تلك المتعلقات الأخرى التي جمعتها من الركام طوال أسابيع، قد يتجاوز الأمر الآلاف الدولارات..

المهم أن هنالك فائدة كبرى بعد إرسالي هنا لهذا الجحيم..

سمعت صوت الجهاز اللاسلكي، لكن ليس خاصتي، لربما أحد رفاقي جاء لأجل أن..

- هل رائيل بجانبكم؟

عقدت حاجبي، قال رفيقي وعلى الأغلب هذا صوت شمعون:

- ليس معي، ربما هو في الثكنة رقم 4..

- اسمع حدث أمر، ولا ارغب بأن يصله، من الأفضل، حتى ننهي تمشيط المناطق..

تجمدت في مكاني، وأنا أدفع بجسدي في الزاوية، كيلا يراني في الظلام، وأسمع عما يتحدثان..

أكمل شمعون:

- أخبار من تل أبيب؟

- بالضبط.. زوجته اللعينة خلقت الحدث هناك، وتناقلت كل القنوات ما فعلت..

شهقت وأنا أضبط وثيرة تنفسي التي ارتفعت.. أكمل شمعون بفضول:

- ماذا جرى؟

- لقد قامت بقتل طفلها الوحيد، ثم قطعت أطرافه بفأس حديدية، ورمتها من الشرفة، وجعلت كل الحي يهرب يهلع..

تخدرت أطرافي وأنا أسمع بهول ما يحدث..

شهق شمعون، أكمل الصوت:

- ليس هذا وحسب، بل اخذت رأس الطفل، وتجولت في الشارع، وأصابت المارّة بالفأس، قتلت شخصا، و4 أشخاص في حالة خطيرة..

صرخ شمعون:

- يا للهول، وهل تم إمساكها؟

- هي في مستشفى الأمراض النفسية..

- يا إلهي..

ابتعد شمعون، ومعه غرق المكان في الظلام والصمت من جديد..

ارتخيت في مكاني بصدمة، لا أصدق ما يجري..

هل يتحدثون عن راشيل زوجتي؟ الحمامة البيضاء الجميلة التي زينت أيامي برقتها وجمالها الهادئ؟

ومن قتلت؟ شمؤيل ابننا الذي ازدانت معه الحياة ما إن صرخ أول مرة؟

شعرت بملمس بشرته اللطيفة حين أمسكت يده الضئيلة حي ولد..

لم أعلم كم مرّ عليّ وأنا في صدمتي تلك، فجأة سمعت صوت خشخشة بخارج النافدة التي بجانبي، انتفضت، أحاول البحث عن بندقيتي، لكنها بعيدة، حينما زحفت في الزاوية تركتها هناك..

تلمست المسدس، ثم أمسكته وأنا أظهر في النافدة..

سأقتل أي مخرب لعين يحاول قتلي..

لكن لم يكن هنالك أي مخرب.. بل طفل صغير، قرفص في الأرض، بهدوء يعبث بالمعلبات التي أكلنا منها البارحة، يمص أصابعه بنهم، وهو يعيد وضعها في العلبة، لمحت صلصلة الطماطم التي كانت تلتصق بالعلب، في حين كان يشمها بجوع ظاهر..

تنهدت وأنا انظر إليه..

ثم تذكرت ابني، سأقتله هذا الصبي ابن المخربين لأنه السبب في موت ابني..

لكن ابني قتلته أمه.. ماذا فعل لي هذا الصبي؟

مرّت دمعتي وأنا في صراع فكري، أنا أتناول الحبوب اللعينة كيلا أفكر، ماذا حلّ بي؟

أليست أرضي هذه؟

هذا ما قاله لنا المدرس العسكري، منذ سبع سنوات، حين سألته عن تاريخنا، أخبرني أن العرب من رغبوا بالحرب سنة 1948، اما اليهود فدافعوا على أنفسهم بيأس، هم مجرد فرق دينية متفرقة حتى، عكسنا نحن، حتى أن البريطانيين كانوا يؤيدون العرب، وجعلونا في موقف بئيس، ثم بعدها فرّ العرب وتركوا البلاد، قامت الدولة اليهودية بكل وازع أخلاقي بعرض التقسيم بينا، لكنهم رفضوا..

إذن؟ لما نحن نعاني؟

- متى ستظل تكذب على نفسك؟

الصوت اللعين الذي كان داخلي..

سأنهيه الآن..

أخذت المسدس، وصوبته ناحية الطفل الذي كان لا يزال يلعق المعلبات..

فجأة..

ودون سابق إنذار، لمحت امرأة، رمت نفسها على الطفل، لتحميه، ثم بكت وهي تخفيه بجسدها الضئيل..

من ذلك الغطاء على رأسها، والملابس الطويلة الرثة، وبكائها اليائس، تبدو والدته..

لمحتني أصوب ناحيته فرمت نفسها تحميه..

الصوت طن في رأسي:

- أرأيت الفرق؟ زوجتك قتلت ابنها.. لكن انظر لهذه المرأة؟ لما؟ لأنه تم لعنكم..

التفت وأنا أرى مصدر الصوت..

كان السنوار يجلس في الكنبة وهو يضع رجله على الأخرى، ويده مقطوعة تقطر دما، في حين لعب بالعصا بيده الأخرى..

كان وجهه ملثما، لكني عرفته من صوته..

ابتسم باستهزاء:

- تسأل من أصحاب الأرض؟ الجواب أمامك.. هي لن تترك ابنها أبدا.. لكن زوجتك..

ترك الجملة مبتورة..

أخذت مسدسي أصوبه ناحيته، لكنه اختفى..

سقطت على الأرض وأنا ألهث..

سمعت خطوات المرأة وابنها يرحلان من المكان، واجتمعت الدموع في عيني، وطنت جملة السنوار في رأسي..

هو محق، انظر لطريقة موته، ورحيله الأيقونية، التي تترسخ الان في عقل كل بشري رآه..

وانظر لطريقتنا نحن المخزية في الموت..

إن كانت بريطانيا دعمت العرب كما قال المدرس العسكري..

ماذا عن وعد بلفور؟

إن كان العرب هم من فرّوا وهربوا..

ماذا عن المجازر والنكبة وتلك الصور؟

نتغنى بالظلم الذي حدث لنا في الهولوكوست، لكننا قمنا بأضعافها؟

من أتجاهل وعلى من أكذب؟

سألت وأنا أنظر في الظلام:

- من المحق؟

ابتسم السنوار وهو يظهر على يميني جالسا على أريكته:

- نحن طبعا.. وإلا لما قاتلنا على هذه الأرض ما يزيد عن 76 سنة.. لتركنا الأرض لأصحابها، لما كنا وقحين لهذه الدرجة.. لما كنت أنت في اليونان وتم جلبك هنا وتم حشو رأسك بالترهات..

شهقت وأنا أجلس على ركبتي وأبكي بحرقة..

ابتسم السنوار:

- يجلبون أمثالكم من بلدانهم، ويحشون رؤوسكم الفارغة بالكذب، ويجعلونكم دمى في أياديهم.. ماذا عنك؟

نظرت إليه، ابتسم وهو يضحك:

- دون ارض ولا ولد ولا استقرار ولا نفسية.. أضحيت مجنونا تخاطب ميتا أمامك، تهابه رغم رحيله..

ضحك ثم أكمل:

- أنا كابوسكم الذي لن يرحل.. سأعيش بفخر داخل كل عربي، وسأعيش بحسرة داخلك وداخلكم جميعا.. لأنني ذكراي ستبقى خالدة للأبد..

ارتعشت وأنا أحمل المسدس وجهته ناحيته، ثم أطلقت، لكنه اختفى وظهر على الجانب الآخر.. أكمل بنبرته التي تحمل الكبرياء:

- اما شعبي، لن يهان، سيقاتل بكل شجاعة، بكل قوة، بكل صمود، بكل تشبث..

ضحك:

- أنتم، ستموتون فاقدين، مفقودين، مهزومين، في الذل والهوان والخزي..

ابتسم وهو يقف، لوح بالعصا، ثم قرفص أمامي:

- لأننا أصحاب الأرض، لأننا أصحاب الحق، وسيعود الحق لأصحابه غدا لا شك، لأن اسمها فلسطين، وأنت في غزة، ومسكنك الذي اغتصبه اسمه تل الربيع، وكلها أرض القدس.. هل سمعت؟

بكيت والهلع يجتاحني، رددت في الجهاز اللاسلكي:

- السنوار هنا.. لم يمت.. أحوّل..

قهقه وهو يقف:

- بالطبع لم أمت.. ولن أفعل، وإلا لما أنا هنا..

بكيت وأنا أتوسل:

- لا تقلتني.. لا تفعل..

أجهشت وأنا أطلب الرحمة من هذا الرجل العتيد، حضوره الطاغي، صوته نافذ، وأنا مجرد متشرد يوناني تجرأ على أن يأتي لهذه الأرض..

توسلت وأنا أرفع المسدس، حتى الطلقات لم تسعفني.. لا يزال صوته يتردد داخلي..

نظر إلي من خلال اللثام..

كنت أظن أن أبو عبيدة مخيف، وأن الضيف أكثر إخافة..

لكن لأعين السنوار مستوى آخر من الرهاب..

ثم رأيته يبعد اللثام، كان السنوار أمامي كأسد يتجول في عرينه، نظر إليّ وشعرت أني شيء حقير لا يرقى أن يكون بشريا مثله حتى، أشار لمسدس:

- كفّر عن خطأك.. الآن..

ارتعشت وأنا أمسك المسدس..

وضعته على صدغي، سأكفر على ذنبي، وأترك الأرض لأصحابها..

أنّى لي المجيء هنا..

تمتمت:

- حاضر سيدي.. أنت صاحب الأرض.. أنت صاحب الحق..

أطلقت الرصاصة، وشعرت بأن جمجمتي تفجرت، خرجت الدماء حارة وأنا أسقط..

وهناك..

حيث كانت الأريكة..

جلس السنوار بتلك الهيبة الربانية، تربع كملك..

ثم التفت إلى النافذة التي كانت بالجدار.. أرسل العصا في الهواء بمهارة، وارتفع صوت ضحكه..

كانت تلك الثقة والهيبة، نابعة من صاحب الأرض..

لا المعتدي الكاذب مثلي..

أغمضت عيني، وأنا أسمع صوته يجلجل داخلي.. كان صاحب الحق والأرض معروفا من البداية..

كان معروفا دون شك..

بقلم الكاتبة عفاف منيحي

بطاقة العمل

اسم المستقل
عدد الإعجابات
0
عدد المشاهدات
20
تاريخ الإضافة
تاريخ الإنجاز
المهارات