تلوث الضوء
كان الليل في الماضي يهبط على الأرض بردائه الأسود فتظهر النجوم بوضوح كأنها جواهر معلقة في السماء. كان الإنسان يرفع رأسه فيرى درب التبانة ممتدة أمامه فيشعر بضآلته وعظمته في آن واحد. لكن مع ظهور المصباح الكهربائي وانتشار الإنارة في المدن تغير المشهد كليا. لم يعد الليل كما كان، فقد وُلدت ظاهرة جديدة يسميها العلماء تلوث الضوء.
هذه الظاهرة لا تعني فقط أن الشوارع مضاءة، بل تعني أن كمية الضوء الصناعي أصبحت تغطي السماء وتحجب عنا رؤية الكون. اليوم يعيش أكثر من ثمانين بالمئة من سكان العالم في أماكن لا يمكنهم فيها رؤية مجرة درب التبانة بالعين المجردة. لقد فقد الليل جزءا من طبيعته الأصلية، وصار امتدادا للنهار بدل أن يكون عالما مغايرا.
العلماء يفسرون أن لهذا التلوث آثارا خطيرة على البيئة. فالطيور التي تهاجر ليلا تضيع مساراتها لأنها تعتمد على النجوم التي اختفت خلف وهج المصابيح. الحشرات الصغيرة التي تنجذب إلى الأضواء تموت بالملايين فتختل التوازنات الطبيعية. حتى النباتات تتأثر لأن دورة الضوء والظلام التي تنظم نموها لم تعد كما كانت. أما الإنسان فحياته البيولوجية نفسها تضطرب، لأن أجسامنا مهيأة للراحة في العتمة، والضوء المستمر يربك النوم ويضعف الصحة النفسية.
لكن الأثر الأعمق ليس علميا فحسب بل إنسانيا أيضا. لقد فقدنا تلك العلاقة الحميمة مع الليل. لم يعد سكان المدن يعرفون معنى أن يروا سماء مرصعة بالنجوم. لم يعد الطفل الذي يولد في العاصمة يرفع رأسه ليكتشف فضاء لا نهائيا. صار الليل مشبعا بالأضواء، وصار الإنسان أسير مدينة لا تنام.
هكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة عجيبة. فقد اخترعنا الضوء لكي نطرد الخوف ونزيد الأمان، لكننا خسرنا في المقابل جمال الليل وصفاء السماء. الليل الذي كان مرآة للروح صار مجرد ظل باهت