الظاهرة الصامتة: "حنين المدن"
اعتدنا أن نتحدث عن حنين الإنسان إلى طفولته، إلى قريته، إلى الأزقة التي كبر فيها. لكن قلّما نسأل: هل المدن نفسها تشتاق إلينا؟
حين يهجر الناس مدينة ما، تبدأ التفاصيل الصغيرة هناك بالتحول إلى رسائل صامتة. الأرصفة التي تشققت كأنها تنتظر وقع الأقدام. النوافذ المكسورة التي تفتح على فراغ، لكنها ما زالت تذكر ظلال من مرّوا أمامها. حتى الغبار الذي يغطي الأبواب الخشبية يبدو وكأنه يحفظ أثر اليد الأخيرة التي لامسته.
في المقابل، الإنسان لا يتوقف عن استدعاء تلك الأماكن. شخص يعيش في مدينة جديدة قد يسمع فجأة صوت بائع متجول في ذاكرته، أو يشم رائحة خبز من فرن قديم، فينتابه حنين جارح. وكأن هناك خيطًا غير مرئي يربط روحه بالحجارة التي تركها خلفه.
إنها علاقة متبادلة:
المدينة بلا إنسان تفقد صوتها. الجدران تصبح صامتة، الساحات تتحول إلى فراغ بلا معنى.
والإنسان بلا مدينة يفقد ذاكرته. كل مكان جديد يحتاج إلى وقت طويل ليصير مألوفًا، لكن لا شيء يعوض زقاقًا واحدًا من طفولته.
لذلك، يمكن القول إن المدن ليست مجرد عمران، بل هي كائن حيّ يعيش بالإنسان. وعندما يرحل سكانها، تبقى المدن كالعجوز الذي ينتظر أبناءه على عتبة البيت.
وهنا يظهر سؤال لم يُطرح بجدية من قبل:
إذا كنا نحن نشتاق إلى المدن، فهل المدن بدورها تشتاق إلينا؟
قد يكون الجواب أقرب إلى الإحساس منه إلى المنطق. لكن كل من مرّ ببلدة مهجورة، أو وقف في شارع يعرف أنه كان مزدحمًا ذات يوم، يدرك أن هناك شيئًا يشبه الحنين... ليس فقط حنين الإنسان إلى المكان، بل حنين المكان إلى الإنسان