في إحدى الليالي، عاد إلى غرفته الصغيرة التي استأجرها بصعوبة، وجلس أمام المرآة.
نظر إلى وجهه مطولًا.
كان نفس الوجه... لكنه لم يعرفه.
"هل كنت دائمًا هكذا؟
أم أني أصبحت هكذا مع الوقت؟"
أشعل سيجارة لم يكن يعرف كيف يدخنها.
لم تكن رغبة، بل فضول.
كأنه يجرب أن يكون "نسخة أخرى منه"، حتى لو كانت مزيفة.
ثم...
حدث شيء غريب.
في وسط صمت الغرفة، سمع خطوة.
واحدة فقط... لكنها واضحة.
كأن أحدًا دخل دون أن يفتح الباب.
نهض ببطء. نظر حوله. لا أحد.
لكن حين التفت إلى المرآة... لم يرَ نفسه.
رأى وجهًا آخر.
رجل في منتصف الثلاثين، ببدلة سوداء أنيقة، شعره داكن، عيناه سوداوان بعمق بلا قاع.
يقف في مكانه. لا يتحرك. لكنه يبتسم.
قال بصوت ناعم، كمن يعرف كل الأسرار:
"اشتقت لي؟"
تجمد علي.
– م... من أنت؟
– ألم نتقابل من قبل؟
أوه... نسيت، هذه المرة أنا حقيقي.
لا حلم، لا ظلال، لا ضباب.
– أنت... الشيطان؟
– إن أردت تسميتي بذلك، فلا بأس.
– ماذا تريد؟
– لا شيء.
أنت من ناداني... حين قلت في داخلك: "لا أستطيع الاستمرار هكذا."
حين بكيت بدون صوت، ولعنت كل شيء.
حين تمنيت لو تستطيع أن تنفجر... فقط، لتتخلص من هذا الصمت.
صمت........
– أتيت فقط... لأعرض عليك عرضًا بسيطًا.
اقترب الرجل منه، حتى صار وجهه على بعد شبر.
همس:
"هل ترغب في أن ترى من يؤذيك... يحترق؟
هل ترغب في أن يسمعك من تجاهلك؟
هل ترغب في أن تصبح أنت... لا هم؟
أستطيع أن أمنحك هذا.
كل ما أطلبه... بسيط جدًا.
فقط، أن تسمح لي بالدخول."
صمتٌ تام.
الساعة توقفت.
الهواء اختفى.
لم يجب. لم يستطع.
كل ما شعر به هو قلبه...
ينبض كأنه يُقرع عليه من الداخل
جلس على طرف الكرسي، يحدّق في الرجل الغريب... أمامه مباشرة.
ملابسه أنيقة. جسده ساكن. عيونه بلا رمش... كأنها بئر عميقة، لا ماء فيها ولا قاع.
قال البطل بصوت مبحوح:
– ماذا تريد مني؟
ابتسم الرجل، ثم مال قليلًا للأمام:
– أنا؟ لا شيء.
أنت من يريد.
أنت من يمشي على حافة الهاوية...
أنت من قلت للعالم "ساعدوني" فصمت.
أنا فقط أمد يدي، حين سحب الآخرون أيديهم.
أراد أن يردّ، لكنه شعر بشيء يجثم على صدره.
كأن الهواء ثقيل.
كأن الكلام صار خطيئة.
تابع الرجل بصوت بارد:
– دعني أقول لك الحقيقة، دون تجميل...
لن تنجح.
لا أحد ينتظر منك شيئًا.
أنت لست بطلًا. أنت مجرد فكرة مؤجلة.
وحتى إن نجحت، ستظل ترى في عيونهم نفس النظرة: شفقة، أو ملل، أو احتقار.
ثم سحب من جيبه ملفًا جلديًّا أسود، فتحه على الطاولة.
خرجت منه صور. أوراق. أسماء.
كانت صوره. لحظاته. رسائل قديمة. وجوه من الماضي.
صورة لصديق تخلّى عنه.
صورة لصديقة كتبت له “أنت طيب... بس مش كفاية”.
رسالة رفض من شركة حلم بها.
تعليق ساخر من أستاذه في الجامعة.
سطر بخط والده يقول فيه: "ملكش لازمه".
عيناه تجوّلت فوق الأوراق، كأن أحدهم مزّق قلبه ووضعه على الطاولة.
نظر إليه الرجل وقال:
– أليسوا هم؟
من أشعروك أنك غير كافٍ؟
من ألقوا بك في قاعٍ مظلم دون أن يلتفتوا خلفهم؟
من صمتوا، حين كنت تتآكل في الداخل؟
لم يجب.
همس قائلا:
– أيمكنك أن تنساهم؟ أن تسامح؟
أم أنك، في أعماقك، تريد أن ترى وجوههم وهي تتفحم؟
أن تسمع أصواتهم ترتجف وهم يتوسلون؟
أن تعرف أنك أخيرًا أصبحت الأقوى...
حتى لو لدقيقة واحدة.
رفع علي عينيه، مبللتين.
شعر بشيء ينكسر في داخله، لا يُرمم.
قال الرجل:
– صفقة بسيطة.
لا أوراق، لا توقيع.
فقط قل: نعم.
وسأُعطيك ما تحتاجه لتُعيد التوازن.
عدالة بطريقتك.
بشروطك.
بيدك.
سكت علي. قلبه يخفق كأنه يقرع جدران جسده.
– وماذا سأدفع بالمقابل؟
ضحك الرجل. ضحكة هادئة جدًا، لكنها باردة.
– لست في وضع يسمح بالسؤال...
أنت غارق، وأنا الحبل.
الغرقى لا يساومون.
ثم وقف.
اقترب منه.
نظر في عينيه مباشرة:
– فقط قل: نعم.
وسأجعلهم يندمون... واحدًا بعد الآخر.
لحظة صمت.
الزمن توقّف.
ثم بصوت أقرب للأنين، قال :
– نعم.
وفور أن لفظ الكلمة، اختفى الرجل.
لم يترك أثرًا، لا ظلًا، لا صوتَ خُطى.
كأنّه لم يكن… أو كأنّه تسرّب من بين طبقات الواقع.
لكن البرد بقي.
ليس برد الشتاء، بل شيء أعمق، أبطأ…
بردٌ يزحف من الداخل، لا يدفأ بالملابس ولا يرحل بالشمس.
ورعشة في أطرافه، خفيفة في أولها،
ثم ما لبثت أن تجذّرت فيه، كأن شيئًا غريبًا دخل من جلده… وسكن هناك.
ثم جاءه الصوت
صوت خافت في الخلفية، لم يعرف مصدره.:
ستأخذ ما لم يُكتب لك،
ويُفتح لك بابٌ لم تطرقه،
وسيراك الناس كما أردت دومًا…
لكنهم لن يروا من أنت، بل ما صرتَ إليه.
في كل ظفرٍ تُحرزه،
سيُنتزع جزءٌ منك،
لا ضجيج فيه ولا دم،
يُقتلع بصمت،
ويُستبدل بما لا تعرفه،
حتى يُعاد تشكيلك دون أن تدري،
ببطءٍ لا يسمعه إلا من فقد صوته.
ستظن أنك تقترب،
تُبصر الضوء،
لكن ما تراه ليس نُورًا…
بل انعكاس نارٍ بعيدة،
تخدع البصر، وتُضلّ الخطى.
وكلما مددت يدك نحو المجد،
غاصت قدماك أعمق …
في هوّةٍ لا قاع لها."