تفاصيل العمل

في منتصف القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي - ظهرت في بلاد المغرب العربي دولة جديدة فتية، استطاعت إحكام سيطرتها على كل بلاد المغرب الإسلامي من ليبيا شرقا إلى المحيط

الأطلنطي غربا، ومدت نفوذها إلى غرب إفريقيا ووسطها، كما استطاعت ضم بلاد الأندلس حتي

قرطبة، وكانت سببا مباشرا لمد أجل دولة الإسلام في الأندلس لمدة ثلاثة قرون على الأقل.

ويعد يوسف بن تاشفين هو المؤسس الحقيقي لدولة المرابطين التي تولى حكمها سنة 462ه بعد

وفاة ابن عمه أبي بكر بن عمر اللمتوني، وابن تاشفين هو قائد معركة الزلاقة الخالدة سنة 479ه ضد مملكة قشتالة الإسبانية، والتي قورنت في زمانها باليرموك والقادسية، وهو باني مدينة مراكش.

بنى يوسف بن تاشفين مدينة مراكش وانتقل إليها في سنة 465ه، وتوفي رحمه الله سنة 500ه

عن تسعين سنة, وخلفه على الحكم ابنه علي بن يوسف الذي شرع في بناء الأسوار حول مدينة

مراكش حوالي سنة 520ه، بمشورة من القاضي الوليد بن رشد بعد تزايد خطر الموحدين، بطول

تسعة كيلو مترات تقريبا، وارتفاع من ستة إلى ثمانية أمتار تقريبا، واستخدم في بنائها التراب الأحمر

المدكوك والمواد المحلية المتوفرة في المنطقة، وهو سر تسمية مراكش بالمدينة الحمراء.

ويضم سور مراكش التاريخي الذي أسسه علي بن يوسف المرابطي أربعة عشرة بابا تتوزع على الواجهات الأربع للمدينة، وهي : باب اغمات، باب اينتان، باب دكالة، باب تاغزوت، باب الصالحة، باب ايلان، باب الشريعة، باب فاس، باب أكناو، باب الدباغين، باب مسوفة، باب المخزن، باب نفيس، باب الرخا، باب دكالة، وينفتح السور العديد من الأبواب القديمة، كان

يحرس كل واحد منها قائد مع ألف رجل من الحراس.

وفي سنة 541ه سيطرت دولة الموحدين بقيادة عبد المؤمن بن علي على بلاد المغرب ودخل مدينة مراكش، وشهدت المدينة مع دخوله أحداث عنف وقتل، وهدم الكثير من آثار المرابطين، خاصة

المساجد، بسبب الاختلاف المذهبي بين الدولتين، وعاشت المدينة معه نكبة استمرت حتى وصل

إلى كرسي الملك أبو يوسف يعقوب بن يوسف الموحدي خير ملوكهم، ودرة تاجهم، موحد المغرب

ومنقذ الأندلس، فأعاد إلى مراكش مجدها وبريقها، وفي زمانه تألقت بروعتها، وزاد عمرانها وتزيينها، وأنشأ القصبة العامرة, ووسع سورها وحصنها. - والقصبة أشبه بمنطقة ملكية تضم قصر الحكم،

والمسجد الجامع، وحصن المدينة -، ولا تزال شاهدة إلى اليوم على مجد الموحدين، وفي سنة 1985 تم إدراج القصبة، مع مجموعة أخري من المعالم التاريخية في مراكش من قبل منظمة اليونسكو إلى

قائمة التراث العالمي.

وبقي حال مراكش على ما تركه عليه أبو يوسف في زمن بني مرين، وفي زمن بني وطاس، إلى أن

سيطرت على بلاد المغرب الدولة السعدية سنة 1510م، فاتخذت مراكش عاصمة لها وزينتها

وعمرتها وحصنتها حتى فاقت في زمنها كل المدن المغربية، فزادوا في عمران القصبة وحصنوها، وبنوا

بها آثار خالدة مثل قصر البديع، وقصر البادي، وقبور السعديين، وبنو الحدائق والزوايا والمساجد

والسبل والحمامات، ومهدوا الطرق، حتى غدت مراكش من حواضر الدنيا، وزادوا في تحصين

الأسوار، فزادوا في عدد الأبراج وفي سمكها، وأضافوا الحجارة في التحصين بعد أن كان الاعتماد

على التراب المدكوك فقط.

واستمر الوضع على ذلك من الاهتمام والصيانة في عهد الدولة العلوية - التي تحكم المغرب من سنة

1666م وحتى اليوم - وعلى الرغم من أنهم لم يتخذوا من مراكش عاصمة لهم فإن اهتمامهم بها لا يقل عن الدولة السعدية، فزاد عمران مراكش، وزاد تحصين أسوارها، ومما يحسب للدولة العلوية أنهم

اهتموا بآثار السعديين، وقرروا لها الصيانة والمتابعة.

قام العلويون بتوسيع مجمع الزاوية والمسجد حول مقام سيدي بلعباس الواقع خارج البوابة الشمالية

للمدينة وجذبت المنطقة العديد من المستوطنين، مما أدى إلى ازدهار الحي خارج أسوار المدينة.

وفي عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الله، تم تمديد أسوار المدينة لتشمل هذا الحي كجزء من الامتداد الشمالي الجديد للمدينة، وهذا كان آخر تعديل رئيسي لجدران المدينة، وآخر اتساع لأسورها.

قام السلطان محمد بن عبد الله بإعادة إعمار دار المخزن بعد سنوات من الإهمال، وتوسيع الجزء الجنوبي من المدينة لاستيعاب حدائق جديدة وسلسلة من المربعات المسورة المعروفة باسم (مشوار)

أو (فناء القصر الملكي). تم بناء العديد من البوابات لتنظيم هذه الملاحق الجنوبية الجديدة.

في القرن التاسع عشر، أعاد السلطان محمد بن عبد الرحمن بناء الجدار الغربي وأضاف حصناً يسمى (سقلات المرابط) للدفاع عن هذا الجزء من الأسوار.

زاد العلويون إذٍ في أسوار مراكش تحصينا واتساعا، وزيادة وهي آخر زيادة معتبرة على الأسوار منذ أيام الموحدين، وفي العصر الحديث مع تقدم علوم الآثار والترمييم تبذل الهيئات المغربية جهودا كبيرة

في ترميم الأسوار وإصلاحها بأحدث المواد، بما يعيد للأسوار هيئتها الأولى مع صلابتها حفاظا على تراث الأسوار النادر، فأسوار مراكش فيما أعلم من أقدم أسوار المدن الباقية إلى اليوم على هيئة تاريخية تعكس مرحلتها التاريخية وزخمها الحضاري.

تمتد أسوار مراكش الحالية بتصميم منتظم يعكس النمط المغربي والأندلسي النموذجي في القرون

الوسطى ويبلغ طوله 11 كم، وارتفاع الأسوار ما بين 6 و8 أمتار، وتحصن كل 25 إلى 30 مترًا

بواسطة أبراج مربعة أو زوايا محصنة ويتراوح سمك الجدران بين 1.4 و2 متر، بينما يتراوح سمك

الأبراج بين 8 و14 مترًا، ولم تعد أسوار مراكش تحيط بالمدينة كما كان في السابق، فقد اتسع

عمران المدينة خارج الأسوار، وأصبحت المدينة القديمة بأسوارها وأبوابها جزء من مدينة مراكش

المعاصرة، وهو أمر يشبه إلى حد كبير منطقة مصر القديمة والقاهرة الفاطمية التي أصبحت بأسوارها وأبوابها جزء صغير جدا من مدينة القاهرة الحالية.

وبمرور الأيام وتتابع السنين، وتطور نظم الحرب وأسلحتها، فقدت الأسوار وظيفتها الدفاعية،

وبقيت قيمتها كشاهد على التاريخ ، ورمزا حضاريا وتاريخيا، وفي هذا السياق عانت الأسوار من

الإهمال لفترة طويلة، ثم بدأ الحكومات المغربية المتعاقبة تولي الأسوار عناية كبيرة، من جهة المحافظة

عليها وترميمها، وإعادة بناء أجزاء منها.

وعلى الرغم من مرور السنين، وتتابع الحدثان، وعشرات البلايا والنكبات لا تزال الأسوار شامخة تحكي حضارة بلاد المغرب الأقصى وتراثها العريق، وخلال تلك السنين تعرضت للكثير من الهزات والتصدعات والانهيارات، كان آخرها في زلزال سيبتمبر 2023م.

وغني عن البيان أن أسوار مراكش بعد ذلك الزلزال المدمر في حاجة ملحة إلى عملية ترميم وتجديد وإعادة بناء، وهي عملية كبيرة جدا، يقف دونها عائقان: الأول هو التكلفة المالية الهائلة نظرا لحجم

الأسوار وطولها، والعائق الثاني هو الخبراء والفنيون والمعماريون المهيأون لمثل هذا العمل الضخم،

وأحسب أن المغرب وحدها من الصعب عليها القيام بهذا الدور، وليس من الصواب تركها وحدها، فهذه الآثار في النهاية هي ميراث للإنسانية وحضارتها.

كما أن لدينا أمثلة لجهود عالمية لإنقاذ الآثار، منها العملية التي أشرفت عليها الأمم المتحدة بمشاركة

سبعين دولة وفرت الدعم المالي والفني والتقني لإنقاذ معبد أبي سمبل في مصر، بعد بناء السد العالي

وتكون بحيرة ناصر خلفه، ومراكش قد وضعتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، فلابد

من تضافر الجهود المخلصة لنحول عملية إنقاذ تلك الآثار إلى عملية إنسانية عالمية توفر الدعم المالي

والفني والتقني.

ملفات مرفقة

بطاقة العمل

اسم المستقل رفعت ع.
عدد الإعجابات 0
عدد المشاهدات 4
تاريخ الإضافة
تاريخ الإنجاز