تفاصيل العمل

كنت طفلة صغيرة، يصطحبها والدها لما كان يدعوه دائما "البلد"، لم أكن أستوعب معني الكلمة، حتي تحولت الكلمة الي ما يبدو انه عذاب.

كنت أضطر ان اتحمل قطار لمدة تزيد عن الساعتين، ثم مواصلة اخري حتي نصل الي البيت الطيني البعيد عن كل ما أألفه في حياتي، وكنت أري أُناس غريبيين بطريقتهم في الحديث والملبس، ويُظهرون الكثير من المحبة التي لا أعرف لها مصدر، كطفلة كنت أري الأخضر في كل مكان، والمنازل الصغيرة الطينية، لدرجة اننا كنا نلهو بأن نقشر الحوائط ونتضاحك عندما تسقط علي الأرض أمام عينينا.

ظلت زيارتنا لبلدنا مقرر كمقرر الجغرافيا التي لا تُحبها وان كنت تعرف انك مُجبر علي مذاكرتها، كل سنة مرتين نذهب في هذه الرحلة، وكل مرة كانت الصور تختلف وكأنها فيلم يحكي عن تطور المكان مُصور بطريقة سريعة، لم أستوعبها طفلة، لكني عندما مر السنوات كثيرة وتنبه وعيي كمصورة، وقارنت بين ما عاصرته طفلة وما أراه أمامي، عرفت مدي التغيير الذي حدث.

كُنا نذهب لبيت أقاربنا بعيد عن منزلنا الذي يُعتبر في وسط البلد، في بلدة صغيرة تُدعي الحامول في محافظة المنوفية، جنوب القاهرة.

كنت أُعلّم الطريق لبيتهم بترعة كبيرة تظل تتلوي كثعبان في الأرض، وعندما تتلوي يمينا وفوق الأرض أري الشجرة الضخمة وتحتها حمار مربوط يبدو عليه الهلاك، أعرف اننا وصلنا بيتهم، كان بيت طيني صغير من دورين، يعيش فيه العائلة بثلاث أجيال.

الجد عبد العزيز والجدة سميرة، وابنائهم الأولاد محمد وسعيد وزوجاتهم هبه وسماح، والأحفاد، عبد العزيز وفارس ومريم وسلمي.

كانوا يستقبلوننا في العراء، نفرش قطعة قماش علي قطعة من الأرض مستوية، ونجلس تحفنا السماء فوقنا، ويمين وشمال الخضرة وما يزرعون نأكله، فيذهب محمد ويختفي عن أعيننا في الغيط، وكنا نتلهف أن نسير خلفه ونري أين يذهب، لكنه ما يلبث أن يعود محني ظهره تحت وطأه ما يحمله، فكان شتاءا أعواد قصب كبيرة تغطي حتي رأسه، وصيفا أعواد درة تتساقط حوله وهو يتحرك نحونا، ويجلس بجانبنا، يُعد الشاي علي النار في حفرة في الأرض بجانبنا، وأثناء انشغاله بالفعل تصل لنا الكثير من " يامرحب، نورتونا، احنا زارنا النبي" والكثير من عبارات الترحيب الشديد، وما تلبس ان تأتي هبه زوجته، بالقٌلل للشرب، وشتاءا برتقال، وصيفا موز.

يستعجلنا والدي دائما ونحن صغار أن نتحرك بعد مضي القليل من الوقت، ونخرج من بيتهم مُحمليين بما يُفرح بيتنا في القاهرة، لبن وبيض وسمن وأحيانا فطير وأعواد من القصب والذرة، وكنا نأخذ طريق العودة وبي كل فضول أن أري حياتهم عن كثب أكثر، كيف يعيشون وماذا يحدث في حياتهم؟.

وتثني لي سبر أغوار هذا الغموض بعد أن أصبحت مصورة، عُدت لنفس البيت لأحصل علي الأجوبة، لكني لم أجد الطريق كما كنت اعرف، الترعة اختفي منها اللون الصافي، وكان بها الكثير من الأوساخ والقليل من الماء، وبدي أن الثعبان الذي يتلوي وكأنه مريض، لم أجد علامتي المميزة، فالشجرة اختفت ولم أعرف أين كان المنزل، وأضطررت أن أتصل بوالدي أسأله عن علامة أخري حتي وصلت.

وظننت أنني ما زلت في تيهي القديم، لم أجد البيت الطيني الصغير وبدل منه وجدت عمارة خرسانة كتلك التي تركتها في القاهرة هربا من حرها، والخضار الذي كان لا تجد عيني له نهاية، تحول لقليل منه والكثير من المباني الخرسانية تقطع علي نظري التجول الحر في الأرض.

في البداية أُصبت بالأحباط، لم يكن هذا الذي عشته طفلة، لكني رضخت للأمر الواقع وتجولت معهم في حياتهم، فعاد لي القليل من الطمأنينة، ما زالوا يستيقظون في السادسة فجرا، ما زالوا يذهبون بي للحقل ويرجعون بخيرات لتأكلها، مازالوا يكثرون من عبارات الترحيب، ولم يكن معي والدي هذه المرة، ولم أكن مُضطرة ان اذهب بعد نصف ساعه، فجلست معهم أسبوع، أستيقظ معهم وانام معهم، فكان يومي يبدأ من السادسة صباحا، وأيام الثلاثاء نذهب للسوق لبيع ما جادت به الأرض في الأسبوع المنصرم، وأيام الأسبوع الباقية يذهب الأطفال للحضانة ويعودون يستذكرون ما تم تلقينه لهم، وتعمل هبه في البيت والحقل وأظل اتتبعها كظلها، وعندما يأتي ميعاد الغذاء أكاد لا أصدق ساعاتي التي تٌشير الي منتصف النهار فقط، وكأن الساعة في البلد تستمتع بوقتها فتمشي الهويني، فحتي اذا ما جاءت الساعه الثامنة مساءا كان كل أعضاء المنزل في أسراهم مُغلقة عيناهم، واتسائل بيني وبين نفسي، في الثامنة في القاهرة تبدأ السهرة، وهنا أنام كما الكتاكيت.

بعد أن عشت مع العائلة في البلد تعلمت ألا انتظر نفس ما كنت أراه صغيرة ولا أفهم معناه، تطورت حياتهم مع تطور الأيام، لكنهم ما زالوا يحتفظون بجمال قلوبهم، يُرحبون بك ويعطوا أفضل ما يملكون، وبابتسامة علي شفتيهم بكل رضا، يعملون في المنزل أغلب اليوم، وكل عملية تأخذ الكثير من الوقت مع القليل من التكنولوجيا التي تساعد ربه المنزل، لكنهم ينجزون أعمالهم بلا تفكير، ويعودون لأولادهم يُتابعون درسوهم، مثلها مثل أي ام في القاهرة، تتعب وتُهلك وتريد ان تري أولادها في أفضل حال يمكن ان يكونوا فيه، تعتني هبه بالطيور والحيوانات بالمنزل وتُعاملهم معاملة حنينة، هي تعرف انهم مصدر رأس مالهم، وتحن علي الأرض حتي تجود عليها بما يمكن لها ان تبيعه فتشتري لبنتها سلمي فستان تطير به الصغيرة سعادة لا توصف، وتحن علي الفرن البلدي حتي يُساعدها في خبز ما يكفيهم اسبوعهم، وتذهب ليلا لتنام فلا تفكر فيما هو أبعد من الغد وما قد يجود به عليها.

بطاقة العمل

اسم المستقل Heba Tallah E.
عدد الإعجابات 0
عدد المشاهدات 9
تاريخ الإضافة
تاريخ الإنجاز