(1)
(انه العطر نفسه...)
قصة قصيرة
عبدالخالق سلطان/
علقت عيناها طويلا في الطريق الطويل الذي لا نهاية له " يا تُرى هل هنالك طرق ليست لها نهاية ؟ " سالت نفسها وهي تتأمل في اللوحة المعلقة على جدار المعرض الذي يتضمن أكثر من عشرين لوحة سريالية يسودها اللون الرمادي القاتم .
بخطواتها الثقيلة، التهمت بعينيها ملامح اللوحات المعلقة الواحدة تلو الأخرى، كان يراقبها وهي تتنقل في القاعة، مستغرقة في التأمل باللوحات، "إنها هي ؟" قالها في نفسه وهو يجول بنظره فستانها الفحمي وخصلات شعرها المصبوغ بالأصفر الفاتح، انه يتذكرها وكيف له نسيان قامتها، لقد طوقها بذراعية لمرات لا يقدر على عدها !
ما أجمل مشيتها، فهي مازالت تسير مثل عود البان، شامخة و جريئة، إن مشيتها كانت أول ما لفتت نظره، فهو مغرم بهذه المشية الخيلاء، مشية الواثق من نفسه، اجل خطواتها رغم هدوئها فإنها ثابتة تمسك بالأرض من تحتها، إنها تلبس النوعية نفسها من الحذاء ، كعب عال، ومغلق من كل الجوانب، لون اسود مثل الليل، يليق بتنورتها التبنية التي بالكاد تخفي ركبتها.
اقترب منها قليلا، دقات قلبه قد ازدادت مع كل خطوة يقترب منها، إنها هي بقامتها الفارعة وخصرها الدقيق، لم تزل رشيقة وجميلة كما تركتها، شعرها مازال حريريا، انه العطر نفسه، تنفس الهواء بعمق، وهو يقترب منها وكأنه يبتلع زمن الماضي بأكمله، لمح أطراف يديها وأصابعها التي طالما نامت في راحتي يديه، إنها الأنامل عينها والأظافر هي ذاتها، طويلة بلونها الأسود الملفت مثلما كان !
شعرت بوجوده يقترب منها، تنفست الهواء، انه العطر ذاته ،أغمضت عينيها، لوهلة اختفت اللوحات المعروضة من أمام عينيها، اجل انه العطر ذاته "من هذا الواقف ورائي؟" سألت نفسها من دون أن تلتف الى الوراء، أيمكن ان يكون هو ؟ بشعره المجعد وعينيه الثاقبتين، ووجهه القمحي؟ آه من بحر ملامحه الهادئة، لقد اشتقت اليه كثيرا ؟ والى عطره وجنونه؟
بدأ قلبها يخفق بسرعة، وتسارعت دقاته باقتراب وقع الحذاء، انه يحب هذا النوع من الحذاء الذي يصدر طقطقة عند المشي، يتباهى بسماع هذا الصوت، ويتبختر بساقيه الطويلتين، وقامته الفارعة، وبدلاته الأنيقة ، لاحت على شفتها ابتسامة وقالت في ذاتها " ما أروعه حينما يقف أمامي ! يتبختر مثل الطاووس ويشرب الخمر من فنجان عيني حتى الثمالة"، كان يذوب أمامها، ويفقد ذاته وكبرياءه؟ ويعلل لها بقوله " لا كبرياء بين العاشقين، فقط السمع والطاعة "
ربما يكون هو، فوقع صوت الحذاء وهو يدق على الأرض مغروس في ذاكرتها، أشعل النار في فتيل ركامها القديم، وأزاح الغبار عن قصتها القديمة، انه الحب الذي أضرم النار في كل خلية من جسدها، وأعاد تشكيلها من جديد، لوًنها بكلماته، بألوان العشق السرمدية، "انه هو، خطواته اعرفها، فهي الناقوس الذي يدق في نفسي منذ عشر سنين ويأبى مغادرتي، وعطره هو الرائحة الوحيدة التي حفظتها خلايا الشم في انفي".
اقتربت الخطوات وتداخل العطران، تباطأت الخطوات، وهي تقترب منها، هو جمد في مكانه، وهي لم تلتفت الى الوراء، يا لروعة اللحظة، أغمضت عينيها واستنشقت العطر بكل خلايا جسدها، تشبع جسدها بالعطر حتى كادت تسكر منه، فلاح من عينيها بريق ومضت بعدها تتابع التأمل في اللوحات التي في المعرض، بينما الخطوات من خلفها قد توقفت عن الدق في الأرض، بانتظار ولو ظل يخرج من تلك اللوحات، فيمنحه القوة ليتابعها وهي تتأمل في بقية لوحات المعرض.
(2)
(ذكريات باردة)
قصة قصيرة
عبدالخالق سلطان /
كانت باردة كبرودة الثلج المتراكم خلف نوافذ المنزل، نظراتها الكئيبة وهي تخترق زجاج النافذة أبدت في نفسه هاجسا أشعره بالقلق والخوف، فأقترب منها، حاول ان يمسك براحة يدها الناعمة، كانت أناملها باردة رغم تواجد المدفاة في الغرفة، دبَ الهلع في قرارة نفسه، لقد كانت في السابق تنبض بالحرارة والحركة، فهي التي كانت طوال ليالي الشتاء القارسة تبيت بملابس شبه عارية وتضحك قائلة اياه: "يكفيني ما بداخلي في حب و حريق".
وجهها مائل الى الاصفرار، عيناها هائمتان الى البعيد وكأنها تحمل هموم العالم فوق كتفيها النحيلتين، قبل ليلتين حاول الاقتراب منها، على السرير، لكنها كانت قد غرقت في سبات عميق!
لم يكن يجاريها احد في حبها للحياة في السابق، انها تتذكر جيدا كيف انقلبت حياته منذ ان تركا ديارهم، انها تحس بانغماسه في حياة الغربة، انه هكذا سريع التكيّف مع اي بيئة يقع فيها!
كثيرا ما حاول ان يخرجها من قمقمها ووحدتها، زارا الكثير من الأماكن المثيرة التي شاهداها في المجلات والفضائيات، أراد ان يحقق لها كل ما حلمت به طوال حياتها وعمرها القصير، فكانا في سفر مستمرمن مدينة الى اخرى ومن بلاد الى اخرى! لكنها ادركت انها باغترابها قد فقدت اشياء كثيرة لم تدرك قيمتها الا بعد اختفائها، ضاعت الأسرة التي تخيلتها منذ صغرها، تلاشى الطفل الذي رسمت ملامحه وصورته حين كانت في المرحلة الابتدائية من دراستها!
عبثا حاول أن يذكرها بالواقع المرير الذي تمرّ به البلاد، انتشار الفساد والقتل والرعب والموت الذي صار يترصد الانسان في كل الاحياء.! هواجس الخوف التي اصبحت بمثابة أشباح تطارد الانسان حتى في المنام.! الخوف من الجار والفقر والقريب قبل البعيد.! اشخاص ملثمون يخطفون الأطفال، ينتهكون أعراض النساء، يخصون الرجال.! عصابات الحرب الاهلية التي تقتل الأنسان على هويته وقوميته وديانته ولغته حتى الاسم صار لعنة على صاحبه..!
تراودها ذكريات طفولتها التي تحولت مع مرور الأيام لأحلام تطاردها في كل لحظة، حفلات عيد الميلاد وهي صغيرة تطفىء الشموع وسط قبلات الأهل، طيف والدها الواقف عند الباب وهو يخبىء وراء ظهره العروسة الهدية! ذكريات أضحت بمثابة كوابيس تلازمها ليلا ونهاراً، تتغذى من حمرة وجهها و بريق عينيها ولمسة يديها و حرارة جسدها حتى صارت باردة كالثلج المتراكم خلف نافذة الدار.
(3)
(عالم مجنون)
قصة قصيرة
عبدالخالق سلطان/
عندما أقول " إنني مجنون ، فهذا يعني إنني مجنون" بهذه العبارة خاطب ذاته المشتتة التي تبحث عن أشياء في قلب العاصفة، التي هبت على روحه فجأة، تاركة جسده النحيل يبحث عن خلاياه المبعثرة، " لا شيء، غير تلك اللوحة، لأقترب منها " حاول جاهدا الاقتراب منها، إنها أشبه بسفح الجبل الذي يطل على بحيرة زرقاء .
عبثا أراد الوصول الى اللوحة، كلما حاول الاقتراب منها كانت تبتعد عنه، قرر البقاء في مكانه، فتوقف ..لكن هناك أصوات في داخله و حشرجات تئن في صدره، تدفعه الى المضي قدما، اللوحة جميلة مغرية ،بألوانها الصفراء وسماؤها البني.
ان اللوحة تكاد تنطق من بعيد، قام على رجليه مرة أخرى، ركض بكل ما أؤتي من قوة، اقترب منها قليلا، لكن اللوحة ابتعدت عنه مرة أخرى، لقد لمح في اللوحة لونا ابيضا في الوسط، "كيف يمكن الوصل إليك يا لوحتي الجميلة" قال هذه الجملة بصوت عال، وبنبرة كانت اقرب الى التوسل، اللوحة بقيت في مكانها.
لقد وجد نفسه منذ فترة، لا يعرف كم هي مداها، أمام هذه اللوحة، الوقت هنا لا وجود له! الأجواء رمادية من حوله، لا اثر للشمس ولا للنجوم، تداعت في نفسه سيل من الأسئلة، ما الذي أتى به الى هذا العالم؟ ما هذه اللوحة التي وجدتها أمامي ؟ لماذا اتبعها ؟ ما هذه الأصوات التي تهمس في داخلي ؟ لماذا انأ مندفع هكذا نحو هذه اللوحة؟ هل تراني أصبت بنوبة من الصرع، او ربما فقدت الذاكرة ؟
فتح عينيه على سعتهما، كانت اللوحة مشعة بألوانها الزاهية، كأنها تناديه، إنها الشيء الوحيد في هذا العالم ؟ الموجود أمامه ؟ انها الحقيقية الوحيدة أمامه ؟ لا وجود لشيء آخر؟ التفت من حوله، عله يرى او يسمع صوتا او يمسك بشيء يعيده إلى عالمه القديم، لكن دون جدوى ؟ وكأنه قد وقع في بئر عميقة ؟ نظر إلى يديه، كانت أصابعه ترقص فرحا وقد تلونت أظافره بألوان من الزهر والبنفسج! الندبة التي على يده اليمنى قد اختفت لم يبق لها أي اثر !
(ما الذي يحصل لي ؟)، (هل أتحول أم ماذا ؟) لم يستطع الاستمرار بالتفكير، فقدميه اللتين يقف عليهما قد بدأتا بالرقص! أي عالم مجنون هذا الذي انأ جئت إليه ؟
الأصوات بدأت تلح عليه مرة أخرى، حاول تجاهلها لكن الأنين كان يزداد، وكأن طفلا صغيرا يبكي في داخله! قفز مثل النمر متوجها نحو اللوحة وركض سريعا، اقترب أكثر من اللوحة، وجد فيها نهرا صافيا ينساب من بين الجبال، لقد تذكر النهر الذي كان يجري بالقرب من بستانهم القديم، كم سبح في ذاك النهر، ولعب مع الأطفال، واصطاد الأسماك الصغيرة، ان ذاكرته قد بدأت تعمل من جديد "ان عقلي ما زال في مكانه ؟ أتذكر الأشياء ؟ لكن ما هو اسمي ؟"
عبثا أراد ان يتذكر اسمه، لمس رأسه وجده مليئا بالشعر، انه ليس رأسي فانا فقدت شعري منذ سنوات؟ من أين أتى هذا الشعر؟ تلمس ملامح وجهه، وجدها صافية، خالية من التجاعيد القليلة التي هاجمته في غفلة من الزمن، إن بشرته الآن مشدودة، عضلات يديه مفتولة، أحس بطاقة كبيرة تسري في جسده، من أين أتت هذه الطاقة، خفقان قلبه قد ازداد، عيناه تصوبتا نحو اللوحة، إنها ما زالت هناك؟ اندفع بقوة أكثر من ذي قبل وركض نحوها ؟ اقترب منها أكثر بل كاد أن يلمسها بأنامله، لولا ابتعادها مرة أخرى، لاحظ ان في اللوحة لونا قاتما يقسمها إلى نصفين، الجانب السفلي منها مليء بالأزهار والورود على اختلاف أنواعها، وفي الجانب الأعلى فوق النهر، شمس قد غطتها غربان سوداء .
سقط على يديه ورجله ، العرق يتصبب من كل جسده، الذي صار يافعا في عنوان شبابه، جلس على ركبتيه، وصاح مناديا اللوحة " أين أنا ؟ أريد أن اعرف لما تبتعدين ؟ لماذا تهربين ؟ أين نحن ؟ كيف جعلتني أبدو شابا بعدما أهلكني الدهر؟ ما هذه الأصوات التي في داخلي ؟ إنها تناديك ؟ أحس بها مثل الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم؟ إلى أين تسيرين ؟ وهل هنالك نهاية ؟ لهروبك مني ؟ و ملاحقتي لك ؟ "