"قبل الرحيل"

تشبعت أرواحنا بخيبات الرجاء في من نذرنا العمر لهم طوعًا وكراهية امتثالًا لواجبات وحقوق تربينا عليها منذ كنا صغارًا، فأورثنا هذا النذر إدمان مرارة الانتظار وإهدار أيام العمر في دوامات تعايش انعدام الوجود ووهن الاحتضار، وأفقنا بعدما غطى المشيب نفوسنا قبل الجباه، فلم نجد في جدب وحدتنا إلا غبارًا يلحف أنفاسنا المنهكة، ويطيح ذرات انكسارات أحلامنا بعد أن صارت هباءً منثورًا.

عذرًا من هذا البؤس، عذرًا من الجميع، عذرًا من أمي وأبي والباقيات الصالحات في زمن وضيع، عذرًا من عمر خنته ووأدته حبًا وحسبانًا لسند منذ كان رضيعًا، يا أيها الباقون من عهد الرجال عذرًا فبر الوالدين بات من المحال، وبات تواصل الوهم أولى بالوصال، يا أيها الماضون نحو التيه حشرًا، خبتم وخاب صنيعكم فحشًا وغدرًا، وستذكرون غدًا عند المشيب كم أذقتم بالجهالة آباءكم مرًا وقهرًا.

عجيبة هي الحياة، تأخذنا دائمًا للحب والحنين لمن فقدناه وسبقنا إلى رحاب الله، لتتكشف لنا كل يوم مزاياه التي لم نقدرها ربع حقها عندما كان ذلك كل ما يتمناه، لا يعوض ندم الفقدان ألف آه، ولا يشفع لنا نحر أيامنا قربانًا لمن ندعو مخلصين لهم الله بالسلامة والسعادة والنجاة، وإن جحدوا فضلنا ولم يكترثوا بأمرنا، وبلغ بهم الصد منتهاه، فلا نشكو إلا لله، ولا نتمنى لهم إلا هداه ورضاه.