صحابي جليل، ذو مناقب جمة وسبقٌ إلى الإسلام منذ سمع عنه. من أنصار رسول الله وأحد النقباء الذين شهدوا البيعة الثانية مع رسول الله -صلّ الله عليه وسلم-.. شاب في ريعان شبابه فارس شجاع وشاعر فصيح، حين ذُكر اسمه عند رسول الله للمرة الأولى لزيارته له قبل بيعة الرضوان بقليل عرف اسمه رسول الله وقال " الشاعر؟"
ذَب عن رسول الله بشِعره وفصاحته..
وفداه بنفسه في غزوة أُحد.. حيث أنه حينما حمي الوطيس وأُصيب رسول الله حتى أشاع الكفار أنه قُتِل وأُصيب المسلمون باليأس، وكان رسول الله قد أصابه الجَهد، فألبسه لأمته الخضراء فظل يقاتل ببسالة حتى رءاه أحد الصحابة فصاح في المسلمين أن رسول الله حي يُقاتل، لما في كعب بن مالك من شبه برسول الله شكلا وبنيانا..
الآن حينما أقول لك أن ذاك الصحابي الجليل ذو المناقب الحسنة والمحبة لله ورسوله وقدره عند رسول الله حتى يُِقربه منه ويختاره ليلبس لأمته في أصعب الظروف لما يعلم من شجاعته وبسالته وحبه لله ورسوله، قد تخلف عن غزوة تبوك ولم يذهب ليقاتل رغم قدرته البدنية والمادية!
بلاء صعب عاشه كعب وحرب نفسية تكبدها حتى تاب الله عليه بقرآن يُتلى إلى يوم القيامة.
حكى كعب قصته بنفسه، وأحاديثه في الكتب. والآن سنحاول تلخيصها والاستفادة منها.
نحن الآن في المدينة حيث الطقس الحار، وطيب الثمار على الأشجار، وها هو رسول الله يعلن النفير للذهاب إلى قتال الروم بتبوك، فليتجهز الجميع..
أصبح كل واحد يلملم شتات ماله وما يملك حتى يجهز عدته وراحلته، فالرحلة طويلة والطريق شاق.
ومنهم مَن لم يجد ما يملك للجهاز فذهبوا إلى رسول الله يبكون يسألونه أن يجد لهم ما يرتحلون به للحاق بالجيش، فاعتذر منهم لعدم المقدرة على ذلك وعذرهم من المشاركة لعدم قدرتهم.. وكذا كان هناك المنافقون الذين لن ليحقوا ولكنهم يتظاهرون بالتجهز وعسكروا في مكان مختلف ثم بعد ما تحرك الجيش هموا عائدين للمدينة.
هنا يقول كعب أن ماله كان وفيرا يقوى على تجهيز راحلتين وليس واحدة.. وبنيانه قوي وشجاعته معهودة. هنا ركن كعب إلى ثقته بقدرته على التجهز في أسرع وقت فتباطأ في الجهاز وظل يسوّف حتى خرج الجيش من المدينة.. فلم ييأس.. فما زال بإمكانه التجهز بسرعة واللحاق بهم فخفته وهو يسير وحده تمكنه من اللحاق بالجيش.. ولكنه أيضا اغتر بثقته بقدرته على ذلك وظل يسوّف حتى انقطع أمله في اللحاق بالجيش. وظل بالمدينة يطوف فيها فلا يرى إلا معذورًا أو مغموسًا عليه بالنفاق. هنا تخيل نفسيته وهو صاحب السبق والمناقب والفارس المقدام يرى نفسه في هذه الحالة. وظل هكذا خمسون يومًا حتى عاد رسول الله من الغزوة. مدة طويلة ربما خلالها كان قد اعتاد الوضع، إلا أنه عندما علم بقرب قدوم رسول الله إلى المدينة ارتعد ولا يدري ما يقول.
قدم رسول الله المدينة ودخل المسجد وصلى ثم بدأ يستقبل الناس، أتاه المنافقون فاعتذروا كذبًا وقبل منهم رسول الله علانيتهم واستغفر لهم وأوكل سرائرهم إلى الله.
وها هو كعب لا يدري ما يقول.. فعزم على قول الصدق مخافة غضب الله، فإن هو اعتذر ورضي رسول الله.. فالله مُطلع وعالم وقادر على فضح كذبه لنبيه، أو بغضب عليه دون فضحه لرسوله.. ولم تكن الثانية بأهون من الأولى.
فدخل كعب المسجد فقال له النبي "تعال" فذهب إليه فقال له النبي " ما خلّفك يا كعب ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟!"
فقال كعب "بلى، إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر، وإني أُعطيتُ جدلًا، وإني والله لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك."
فقال رسول الله " أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك"
فقام كعب وخرج من المسجد يشعر بالارتياح لصدقه ويخاف من غضب رسول الله. فلامه بعض أهله أنه هكذا أغضب رسول الله ما المشكلة لو اعتذر كما الباقين واستغفر له رسول الله، أفضل من حاله الآن وهو لا يدري مصيره. وظلوا يلحون عليه حتى بات مذبذبا وكان يفكر في الذهاب إلى رسول الله وتكذيب نفسه. وفي هذه الحالة سأل إن كان هناك أحد مثل حالته فأخبروه أي نعم هناك اثنان هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، قد قالوا مثل ما قلت وقال لهم الرسول مثل ما قال لك. فاطمئن لما فعل لما يعلم من صلاح هذين الرجلين. وهنا ندرك تأثير الصحبة الصالحة والأسوة الحسنة في التثبيت على الحق. فالإنسان وحيدًا ربما تهزمه نفسه وشيطانه في لحظة ضعف فإن لم يجد من يؤازره ويشد على كتفه ربما يهوي إلى ما لا يُحب أن يكون فيه.
الآن كعب لا يدري مصيره.. فإذا بـ رسول الله يأمر الصحابة بأن لا يُحادثوا كعب وصاحبيه وأن يجتنبوا معاملتهم. اشتدت الحرب النفسية عليهم وأضحى الناس في المدينة لا يكلمونهم وتغيروا عليهم. يقول كعب "فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف"
ظل الحال هكذا حتى أتموا الأربعين يومًا، يطوف كعب في المدينة ولا يحادثه أحد يُلقي السلام فلا يُرَد عليه، يدخل المسجد ليصلي فلا يكلمه أحد ولا يرد عليه رسول الله السلام.
عقاب بقدر المحبة التي نالها في قلب الرسول صلّ الله عليه وسلم.
أما صاحباه فاعتزلوا الناس وأمضوا أيامهم يبكون ويسألون الله العفو والمغفرة.
وهنا نرى صلابة كعب النفسية وقدرته على المواجهة والاختلاط رغم انتباذ الناس له.. وربما يرجع ذلك إلى كونه أكثر شبابا عن صاحبيه.
هنا كعب في حالة نفسية يرثى لها، ربما احتاج لمن يطمئنه أن الله سيغفر له.. فإذا به يتسور بيت ابن عمه وأحب الناس إليه ويسأله "تعلم أني أحب الله ورسوله؟ " فيمتنع ابن عمه عن الرد فما زال يناشده كعب حتى رد عليه ابن عمه قائلًا " الله ورسوله أعلم" رد صادم من أقرب الناس إليه.. يشكك في حبه لله ورسوله بعد كل هذا..! فإذا بكعب يأخذ الجواب ساكن الهيئة مضطرب المشاعر ويعود يجر حزنه متسورًا سور البيت للخروج.
وفي هذه الأحيان، أثناء تجوله في السوق إذ برجل من الشام ينادي ويسأل عن مَن يدله عن كعب بن مالك. فأشار الناس على كعب.. فأعطاه الرجل كتابًا من ملك غسان مكتوب فيه أن وصلنا خبر أن صاحبك قد جفاك فالحق بنا نكرمك، وكان الكتاب مغلفًا بالحرير، ربما تعمدوا ذلك إشارة إلى النعيم الذي سيلحق به عند إقباله إليهم. فقال وهذا من البلاء أيضًا وأقبل كعب على تنور -فرن- وألقى بالكتاب وأحرقه. رد فعل سريع يدل على قوته وصدقه مع الله فرغم ما يلقاه في المدينة من جفاء إلا أنه رفض قطعًا موالاة غير الله ورسوله ولم يترك أي أثر لهذه الفتنة بأي حجة كانت بل بادر سريعًا لحرق الكتاب حتى لا تزين له نفسه اللحاق أو التفكر في الأمر.
وبعد الأربعين يومًا أتاه رسول النبي صلّ الله عليه وسلم، وأخبره أن يعتزل زوجته، فسأل هل أطلقها فقال له لا بل اعتزلها فقط، فأخبر زوجته أن الحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر.
الآن هو وحيد تمامًا لا أحد يكلمه وكذا زوجته أقرب الناس إليه اعتزلها، ربما ليكن العقاب من جنس العمل، فكما حُرم الغازون من زوجاتهم وأبنائهم في فترة غزوهم فليُحرم منهم كعب أيضًا عقابًا لتخلفه وعدم لحاقه بهم.
الآن فجر اليوم الواحد والخمسين ذات المدة التي قضاها رسول الله وأصحابه في الغزوة. ربما قوة كعب النفسية أصبحت لا تقوى على مواجهة الجفاء فصلى الفجر على سطح أحد منازله، وإذا به أثناء جلوسه يسمع منادٍ من على جبل يقول " يا كعب بن مالك أبشر" فسجد كعب لتوه وعلم أنها بشارة من الله بتوبته عليه، وأتاه الزبير بن العوام ممتطيًا فرسه ليبشره بنفسه. ثم ذهب كعب إلى المسجد فاستقبله الناس وفودا وفودا يبشرونه ويباركون له.. محبة خالصة لله وفي الله.. ممتلأة بالامتثال لأوامر الرسول بالاجتناب ثم ها هم الآن فرحون له وبه بتوبة الله عليه.
ثم يقول كعب" فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة" هنا مواقف الود والمحبة الاستثنائية التي لا تُنسى..
ثم أقبل كعب وسلم على النبي -صلّ الله عليه وسلم- فقال له النبي ووجهه يبرق من السرور" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"
فقال كعب " أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟"
فقال:" لا بل من عند الله"
فلمَ لا يكون خير يوم مر عليه وهو اليوم الذي نزل فيه قرءان يتلى ليُعلن توبته.. إعلان من ملك الملوك بصدق كعب وإخلاصه في توبته هو وصاحبيه.
" وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا.."
خُلفوا هنا تعني أُرجِأَ أمرهم إلى الله ولم يقضَ فيه.
الآن هدأ القلب واطمئنت النفس وتيقن كعب من صحة موقفه وأن نجاته في صدقه حتى وإن تأخر الفرج وزاد البلاء وعاهد رسول الله على أن لا يقول إلا الصدق طيلة حياته..
نرى هنا نوعًا خاصًا من الابتلاء، ربما تقول ابتلاء الكبار كما سماه الكاتب.. ابتلاء في نقطة قوتك، أنت تقدر على العُدة وتقدر على الجهاد ولكنك تخلفت..
ترى نفسك وأنت ذو المناقب والهمة العالية في المدينة مع المنافقين والمعذورين..
توضع في مواجهة مع النفس أتكذب وتعتذر وتنال رضا الرسول واستغفاره، أم تصدق وتتحمل عواقب ذلك ابتغاء مرضات الله وحده؟
هل ستبقى رغم الجفاء متأملًا في عفو الله وموالاة رسوله، أو ستركن إلى أهل الكفر طالبًا الدنيا والجاه وأنت كاتب شاعر فصيح ؟
والنتيجة عندما صدق وآثر رضا الله وطلب منه العفو معترفًا بذنبه، تاب الله عليه بقرآن يُتلى إلى يوم القيامة، ليكن هو وصاحبيه آية في الصدق والتجلد والإقرار بالذنب وطلب العفو من الله.
#إسراء_الشرقاوي
اسم المستقل | إسراء ا. |
عدد الإعجابات | 0 |
عدد المشاهدات | 68 |
تاريخ الإضافة |