منذ أعوام كانت حياتي مثل هذا الكُرسي ، في كل مكان فراغ وصمتٍ مُخيف، زواحف تُسمى بشر تزحف إلى الكُرسي وأنا عاجز عن صدها، كان لدي شعور مُضمن مُقنِط أنه بدلاً من أن أغوص في رُدهات أحلامي و بدلاً من أن أسعى في تحقيقها، انزلقت قدماي في متاهات صُنعت من الضباب و الظِلال الخفية، بعضها مكائد صماء ،وبعضها الأخر وشوشات من أحاديث جميلة، وكان الأغلب هي طعنات سكين حاد، فتسمرت في مكاني، وانحدرت ، و وطئت قدماي أدغال مخاوفي ثم تصلبت ، ومن وقتها وأنا ولم أُصادف سوى المُحتالين ودجالين المشاعر الذين يتعذر الإمساك بهم ، فهم باردون الطِباع غليظون السلوك لا يُعاشَرون، لم يكن ذلك إلا في البداية، حتى سألت نفسي: لماذا؟ وحاولت التملُّص والفرار .. بكل جُهدي قاومت ، ولكنني لم أقدر على التراجع.
لم يكن أمامي سوى غابات ومغارات نفوسهم، الكل بات كالعُليق(1) فوق الدروب حول الكُرسي منتشر، كُلما تقدمت خطوة كانوا وراءي ، وكلما تأخرت خطوة كانوا خلفي، لم يفلح معهم فضولي المضطرب للوصول إلى نهاية الهلع لأتخلص منهم جميعهم، فكان تغلّبهم على الباقي مِني أمر ليس منه من مفر.
قد غاب ذاك الشاب الوسيم الأهيف الممشوق القوام ، ولم يتبقى سوى ذاك الكُرسي العتيق الموجود داخل تلك الرُدهة الصغيرة، ذاك الكُرسي الذي منذ أن سقطت فوقه وأنا أُشبهَهُ .. قديم .. عتيق .. اتقاسم معه الصمت والقِدم ، تغشوني عَفارات الزمن، أحتسبه صديقي الذي أُبادله الأحاديث فيُجيبَني صمته بما أريد.
ذلك الكّرسي هو حياتي.. كان يشعر أن وراء صوتي المُرتجف شخصاً وحيداً ، شريداً ، خائفاً يرتعد، كان ذاك الكُرسي لديه نظر لم يكن عند الكثير من الناس، وكان يقرأ كل إيماءاتي ويلاحظ تميُّزي.
حين أجلس فوقه يُشي بذوقي وقسماتي اللطيفة ، ويُذَكّر الجميع بفِكري الثاقب.. كل هذا من هيبة جلستي.
والأن ..جاء اليوم الذي فضّلت فيه ذاك الكُرسي النبيل على كل معارفي، و حانت الساعة التي فيها قررت أن أرحل.
إنه لأمر مؤسف أن يكون رحيلي مع كُرسي من دون البشر ، إنه رحيل بالزمان وليس المكان.
كان يتملكني الأمل بأن أعود من حِطام انزلاقي وألتقي على طريق أخر بمن لم أجده في ماضي انتهى، ولكنني يأست. فلن أعود ، وسأبقى هنا .. مع هذا الصديق الخالد ، فوق ظنون كل البشر
تأليف سحر عمر
(1) العُليق نبات ينمو في الغابات كشجر اللبلاب
قصة قصيرة
اسم المستقل | سحر ع. |
عدد الإعجابات | 0 |
عدد المشاهدات | 19 |
تاريخ الإضافة | |
تاريخ الإنجاز |