الخاطرة 82: قانون "إلا إذا "
فيلم سي عمر من أفلام نجيب الريحاني، لقد شاهدت هذا الفيلم مرات عديدة لا أذكر كم بلغت، ولا أذكر أني مللت منه، وأزعم أنني أكاد أحفظ السيناريو حفظًا!
ودأبي عندما أعجب بفيلم أن يكون إعجابي ليس بسبب الحدوتة أو قصته، بقدر إعجابي بفكرته ورمزيته!
ففي هذا الفيلم الشخصية المحورية فيه " جابر" كاتب الحسابات في عزبة عمر الألفي، والذي لا يملك من حطام الدنيا إلا ضميرًا حيًا .
اعترض جابر على خلو العزبة من كوب لبن، رغم أنها فيها ألفي فدان، ومزارع للفراخ، والأبقار، والجاموس، ومناحل، وعدد من الأنفار يبلغ 600 عاملًا، و150 بقرة و 90 جاموسة!
النحل مثل الغمام، يسد عين الشمس، ورغم ذلك لا يوجد لحسة عسل!
فيصتدم بقانون "إلا إذا " لأنه انتقد السرقة المتبجحة التي وصلت حد الاستخفاف بالعقول، فهو محاسب يقبض راتبه، إلا إذا شاركهم السرقة ولكنه لم يفعل .. فيبلغوه بالرفد من العمل بعدما أجمعوا على ضرورة إخراجه من اللعبة، فقانون إلا إذا يرفض أمثاله المطهرين!
ويسخر جابر من موظف جاء يسلم عليه وهو يركب قطار القاهرة، يشكو الموظف حاله ويسأله: لم ستسافر القاهرة يا جابر أفندي؟!
فيجيب بسخرية ... ترقية يا سيدي!
فيبارك له، بل ويسأله الدعاء .. لآنه تعبان في شغله، ويريد أن يرتاح ويترقى!
فيسأله جابر هل أنت مخلص وأمين في شغلك؟
فيقول: نعم ولا أملك غير الضمير والإخلاص في العمل.
فيجيبه جابر: مادمت تشتغل بزمة وعندك ضمير ستترقى بالتأكيد!
ثم في القطار يستغله رجل أحول العينين قصير القامة (عبدافتاح القصري) إنه ساطور اللص، ويضع في جيبه عقدًا مسروقًا؛ ليفلت من قبض البوليس عليه عند نزوله!
وإذا بجليسته في القطار وهي إحدى سيدات المجتمع الفضليات، فنانة ونجمة كما يسميها المجتمع، ترى ساطورًا وهو يضع العقد في جيب جابر، فتحتال على جابر بالإغراء؛ لتأخذه إلى بيتها، لتسرق منه العقد بادعائها عليه أنه سرقه منها، ووضعه في جيبه، وينكر جابر أفندي لأنه يجهل أن العقد في جيبه، وبتفتيشه يجدون العقد!
ويدهش جابر، كيف وصل العقد إلى جيبه!
وتصر السيدة على تسليمه إلى البوليس "إلا إذا" قبَّل الأيادي واعتذر وبكى كي ترحمه!
نعم على البرئ أن يبدي الخضوع والانكسار؛ حتى يفلت من عقاب الظالم، اللص المحتال في ثوب النجم الشريف المنقذ!
وتسير الأحداث وفق هذا القانون، فيوزع اللصوص فلوسه فيما بينهم، فلوسه التي سرقها مساعد ساطور من جابر حينما نزل معه في الفندق، ويجبرونه على مشاركتهم في السرقة، وإلا إذا قتلوه إن رفض أن تقسم فلوسه بينهم دونه وهو ينظر ولابد أن يبتسم .. بل وعليه أن يشارك ساطور وعصابته في سرقة صيدلية، ثم بقالة، فعليه أن يسرق لهم رغم أنفه، ولا يعفيه أو ينجيه من طاعة المجرم "إلا إذا " ردُّ إليه العقد الذي سرقته الفنانة!
وفجأة في الطريق يروا الفنانة في سيارة تمر بجانبهم وهم في سيارتهم، فيتبعوها لاسترداد العقد، حتى تدخل السيدة إلى قصر عمر الألفي، ويدخلون خلفها، فيجد جابر نفسه شبيهًا بل توءمًا لعمر الألفي، فكل من يراه يصرخ بعودة سي عمر ...!
ويضطر أن يسايرهم على أنه عمر صاحب الأبعدية والعزبة الخاسرة، والمديونة رغم وفرة خيراتها وثرائها!
وإلا إذا اكتشف أمره وأمر العقد وساطور والسيدة نفسها!
وتدعي الفنانة أنها تزوجت عمر عرفيًا في الهند، وأن جابر هو عمر‘ وقدمت جابر إليهم على أنه عمر الألفي ابنهم، عندما وجدت الجميع يرونه عمر لشدة الشبه بينهما!
ويحضر عم عمر الألفي والمتصرف في الأبعدية، فيهرب ساطور عندما يعلم أن هذا العم عمر كان حكمدارًا سابقًا في المباحث!
ويشك العم في جابر لحسه الشرطي الإجرامي وخوفه من سلب زمام الثروة من يده، ويلفت نظره أن عمر لا يتحدث أي كلمة هندي رغم مكوثه في الهند ربه قرنٍ من الزمان، فعلى الفور استقدم عالمًا هنديًا في علم قراءة الكف، ليقرأ كف جابر، وإذ بهذا الهندي لا يعرف العربية، علمًا بأن العم جميل بك في نهاية خدمته كشف نصابًا مدعيًا أنه مهراجا هندي، كان المهراجا قد أهدى فيلًا أبيضًا لحديقة الحيوان ليصدقه الناس!
وهنا العالم الهندي يتمسك بمترجمه، مدعيًا من خلال المترجم أن بينهما رموزًا خاصة لن يفهمها غير مترجمه، إلا أن جميل يصر على قيام جابر الذي قضى عشرين سنة في الهند بالترجمة، وهنا يميل الهندي إلى جابر يستعطفه ألا يفضحه فهو لا يعرف أي كلمةٍ هنديةٍ، وأكل عيشه اضطره أن يشتغل دجالًا!
ويكاد يقبل الدجال يد جابر كي لا يفضحه، فأكل العيشصعب وهو ما جعله يدعي أنه هندي!
ويعلنها جابر همسًا للدجال: سأبلغ عنك، وأفضحك، إلا إذا تبت، وتركت الدجل!
فيوافق الدجال لينجو من تحت يديه، شاكرًا له!
وبترقب وتتبع جابر، يكشف عم عمر الألفي الحكمدار السابق أمر جابر المنتحل شخصية عمر الألفي عندما كان يتنصت عليه، وسمع حديثه مع الفنانة المدعية أنها زوجة عمر!
العم الذي يدير العزبة لحسابه، والراعي الرسمي للفساد والسرقة، يهدد جابر بتسليمه للبوليس بتهمة الإدعاء بالتزوير، وانتحال شخصية صاحب الملك عمر الألفي!
ويعرض بوقاعة وتهديد مطول على جابر أفندي قانون "إلا إذا"!
وبعد تخويفه وتيئيسه من العفو عنه يقول له: "إلا إذا"!
ويلتقط جابر أنفاسه، ويردد القانون، كأنه يتعبد ويتضرع بالإيمان به، فهو منقذه من الحبس وفقد الحرية!
إلا إذا ... إلا إذا إيه يا أفندم؟!
فيفصح العم الحكمدار السابق الأمين على عزبة ابن أخيه عن رغبته في استخدام جابر ليعمل له، ويعرضها صراحة: "إلا إذا" كنت خاتمًا في إصبعي!
ولأن الزمن جزء من العلاج، يمسك جابر أفندي بالصدفة ورقةً زورها العم الحكمدار ليصرف مبلغًا كبيرًا موقوفًا، واقعة تزوير، فيعرض جابر أفندي عليه بالأسلوب نفسه، أنه سيقضي عليه، وأن كليهما رايح في ستين داهية، "إلا إذا"!
ويرضخ جميل بك عن كره وذلٍّ عرض جابر أفندي؛ كي ينجو من الحبس، ويرفع يده عن العزبة رغم أنفه، ويترك جابر يعيش الحياة كمتحكم في العزبة والأوقاف، بوصفه عمر الألفي صاحب الأملاك، ويصمت العم الشرطي المجرم منذ رضاعته صمت الموتى!
حتى تواتيه الفرصة، ويأتي ساطور ومساعده لزيارة جابر، والوقوف على حالته من العقد، ومغنمه من الأملاك.
ويعرفهم جميل بك، ويهددهم بتسليمهم للبوليس كلصوص مسجلين خطر!
ويذكرهم بسوابقهم، ويعرض عليهم القانون: "إلا إذا".
ويعطيهم خمسين جنيهًا مقدم أتعاب؛ ليعيدوا إليه الورقة المزورة لدى جابر! و"إلا إذا" سلمهم للبوليس، وكشف عن سوابقهم!
ويقبل ساطور ورفيقه.
وفي مشهد عودة عمر الألفي الحقيقي من سفره، ويظهر مع جابر في آن واحد، يرتبك الجميع، ويردد ساطور (عبدالفتاح القصري) بعين حولاء مين فيهم عمر!
ولأن جابر عزل المفسدين، وأعاد للعزبة قانون العدل والمحاسبة، ففصل اللصوص من مناصبهم، وقاد زمام الأمور بشرف وعفة، كان جزاؤه من عمر الألفي أن زوجه أخته الوحيدة؛ ليفوز الشاطر جابر بست الحسن والجمال، ويدخل سجن الحياة الزوجية السعيد!
هذه نهاية سي عمر ... في عالم الأفلام!
ولكن ملايين من سي عمر في الواقع يخضعون حتى الموت لقانون "إلا إذا"، دون الزواج من ست الحسن، أو الفوز بالثراء والسيادة، أو حتى الفرح لبعض الوقت بدورة الزمن بقانون "إلا إذا"؛ ليتنفسوا الصعداء!
بل يتألمون ويعذبون، وضاقت صدور بعض الأحياء منهم، فلا يمنعهم من الكفر بكل مبدأ، أو الاقدام على الانتحار إلا اعتقادهم في الآخرة، وثقتهم في عدل ملك الملوك.
عزيزي القارئ نصيحتي لك ألا تقبل أي نصيحة حتى هذه النصيحة "إلا إذا"!
همسة: وَحدي أعيشُ علىٰ ذِكْرى تُؤَرِّقُني ** أنا الغريبُ؛ فلا أهْلٌ، ولا وَطَنُ