5- البرغوث والدكتور
طال الزمان وتناءت الأيام، وأبحرتُ سنينًا في خضم الأحداث، فأمطرتني الخطوب التي شغلت العقل، وأعيت القلب، فوجدتني أذكر الدكتور بعد تلك السنين الطوال.
إنه الابن الأكبر للأسرة، ذلك الذي ربطوا اسمه بكل عجيب وغريب ومثير، كيف لا وقد أرضعتني أمي مهابته وجلاله؟!
فهو كعبة أسرتي، إنه الألمعي الذكي الذي نلنا تقدير أهل القرية لأجله، صورته لي أمي على أنه العبقري الألمعي، هو أسطورة في تفوقه الدراسي والعاطفي أيضًا!
هو الكبير دائمًا، وفي كل شيء لاسيما في سخريته من كل شيء وأي شخص، الصوت العالي يهرب في حضوره، فالأصوات كلها تنحني له حتى صوت أبي!
هو الحكيم دائمًا، الفهامة في كل شيء، شواهد كتبه وكراساته ترشد عن خطاطٍ ماهرٍ، ورسامٍ مبدعٍ، ودرجاته دائمًا كانت النهائية.
حنوه كان بحرًا خضم كما حكت عنه أمي: أخوك يا شرف مفيش في حنانه وطيبة قلبه، وأنت صغير كان يا قلب أمه يشيلك، ويعطيك خده تصفعه وهو يصرخ آه!
ويقول اضرب جامد، وتظل تضرب .. وتضرب .. وتضرب .. وهو يا حبيبي يقول: آه .. جامد يا ولد!
وأنت تضرب حتى تحمر خدوده، حبيبي يا بني ... قلب أمك يا دكتور!
وإذا جاء الدكتور فقد تفتحت الزهور وغردت العصافير واكتسى البيت جمالًا ونظافة غير معهودة، فلا شيء يبقى على حالته أو في مكانه، فالتغيير شامل، ونظافة لكل شيء وكل مكان، الكون كله يتجدد، وينتظر شمس الدكتور الشتوية المشرقة لساعاتٍ قلائل كل عام!
فالوسائد تعد، والمفارش تفرش، وتخرج من بياتها إلى الحياة القصيرة جدًا، وهي فترة زيارة الدكتور!
فتغرب الأشياء الجميلة بغروب شمس الدكتور، فإذا بالدنيا زيارة للدكتور، ثم تكون الحياة المعتادة فور سفره عنا إلى مصر أم الدنيا ...
فقد اعتدنا أن نسمي القاهرة مصر...!
إنه الدكتور الحاصل على الترتيب الأول على مستوى الجمهورية، في قرية يفك الخط فيها نفرٌ قليلٌ، من عامل التليفون عوض أفندي، وكاتب الجمعية التعاونية عم أبو هاشم والقباني الذي يقيس الأرض ويزن الحبوب عم أبو سلامة!
جاء الدكتور واشتعل البيت نشاطًا وقامت النظافة من مرقدها، وتجدد الكون واكتسى عافيةً.
ومع وصوله تتوقف حياتنا الشخصية تمامًا عن العمل، فالشخصية المحورية قد حلت بنا، سنعتمر بالطواف حولها، سنستمع لحواراتٍ شائقةٍ غابت عنا، وسنتبارى في قص النكات والمواقف التي تضحك الدكتور!
وسنقبل أطفال الدكتور!
فهم ليسوا كأطفال العائلة، فغاية ما كان يجود به والدي العظيم على أحد أحفاده في العيد أو يوم السوق هو حته بعشره (عشرة قروش)!
أما أولاد الدكتور فيعطيهم مبلغًا كبيرًا مئات الجنيهات، هو نفسه لا يعرف كم عددهم؛ لأنه كان عليه الرحمة شديد الأمانة في نقل المبلغ من يد أبيهم إلى أيديهم التي أسرت بالمبلغ إليه..!
حتى يبدو الجد كريمًا قدام الأبلة زوجة الدكتور، وليس أقل من جد الأولاد لأمهم أو أخوالهم!
عند صولة الدكتور وتجواله يضيف إلى كل شيء مقترحًا ورأيًا وتعليقًا، والأعناق مشرئبةً والعيون شاخصةً والآذان مصغية إليه!
وعلى الرءوس الطائفة حول دكتورنا المبجل أن تهتز إعجابًا وعلى الوجوه أن تبش، وربما تباهى أحدنا خيلاء إذا أقر الدكتور رأيه أو أشاد بصنيعة أحدنا، فيلتفت للحضور فاغرًا فمه، عالي الضحكات، رافعًا رأسه، معتزًا بنفسه؛ فرأيه من رأي الدكتور، أو رأي الدكتور صدَّق على رأيه وصنيعه!
كيف لا وقد بلغ من الحكمة والبراعة والجودة والتفرد أن أعجب الدكتور به أو بحسن صنيعه!
وعندما يحل موعد الطعام تخرج الأم الطيبة ما لذ وطاب، وما وافق أو خالف موعد الحصاد، ويظهر الكرم الحاتمي عندما تشرق شمس الدكتور، كانت المائدة تشتكي من تنوع وكثرة ما عليها من أجود الأصناف، ولسان حال المائدة أنقذوني واحرسوني من السطو، فقد تخاف المائدة على نفسها أن تتعود على مثل هذه المأكولات ثم بعد ذلك لا تجدها!
وكانت الأم لا تنسى أن تهمس لنا وتؤكد، لا أحد يقعد مع الدكتور وعياله على المائدة، اتركوهم يأكلوا على راحتهم ... قلب أمك يا ابني!
وكان الدكتور من فرط حنانه يعزم علينا لنشاركه الطعام، والأبله أيضًا، لكن هيهات، فالكل يسبح بكلمات الشكر للدكتور الحنون، متخوفًا من تجاوز تنبيهات أم الدكتور ...!
ثم لا يخفى أن بقايا المائدة -إن وجدت بقايا- كانت تخضع لسيطرة الأم الطيبة فورًا؛ لتوزعها على الجميع قبل أن يفوز بها المزغود الصغير دون إخوانه!
وعندما يجلس دكتورنا قدام بيتنا تنهال عليه التحيات المباركات من وجوه المارة المبتسمة الضاحكة، وعيونهم تنظر إلى الأرض، وأيديهم توضع على صدورهم عقب المصافحة باليد، وعلى الرءوس عند الوداع!
وجلهم يفخر بأنه تلميذ الدكتور، وأنه تربى في بيتنا، وبعدما ينصرف أحدهم لابد أن يعلق الدكتور ويقول: هذا الولد كان غبيًا... شقيًا ... جاهلًا ... مضحكًا!
فنعرف عن الشخص ما لم نعرف من قبل، وربما ما لا يتسق مع معرفتنا عنه!
وعندما يأتي المساء يكون السمر، وتفرش المجالس، فالدكتور سيأتيه القاصي والداني ممن ينتظرون هلاله طوال العام، فأصدقاء يتحينون الفرصة لمجالسته، وأبناء العم من العائلة، وأصحاب الأمراض والاستشارات الطبية.
وينعقد مشهد السلطان والجواري، فدكتورنا السلطان وضيوفه وقاصديه هم حاشيته، ونحن مواليه وندماؤه ومضحكيه!
لكن المتعة في الدنيا حتمًا منقوصة؛ فدكتورنا يفسد علينا عمرتنا ببعض من محظورات الإحرام، فلو اختفى أحدنا ساعةً لبعض شئونه فلن يسلم من تفقد الدكتور طيره، وعليه أن ينجو من سخرية الدكتور، وسخط أم الدكتور، بأن يأتي من سبأ بنبأ يقين، وإلا سيمسنَّه السخط العظيم!
ومن يقع في محظورات الإحرام يشعر بالندم، ويرجو الله أن يتوب عليه، ويعتزم العزم الأكيد ألا يعود لمثلها أبدًا!
الطامة الكبرى عندما يريد دكتورنا النوم؛ فالأماكن التي تليق بجنابه تخلو على الفور من قاطنيها، وكل مقومات السهر والحياة يحتكرها وحده، فالتلفاز والمروحة وكل محتويات البيت تؤمم.
وعلى المتضرر اللجوء إلى النوم مبكرًا حتى يأتي الصبح مسرعًا!
وفي الليلة المباركة التي أنزل فيها الدكتور علينا مبارَكًا ومطهَّرًا ومُبارِكًا ومُطهِّرًا للمكان، داعبنا الدكتور بمفسدةٍ لليلة القدر التي أطل علينا فيها.
صاح الدكتور؛ فارتعدت الفرائص، وخرجت الأم الحنون: مالك يا ضنايا ...
إيه اللي حصل يا قلب أمك!
وبحث كل من في البيت في ماضي يومه، ريثما يعثر على حماقة ارتكبها فأثارت غضب الأسد، فجعلت الكعبة المشرفة تزمجر وتهرول هنا وهناك، وتتمتم بكلمات التوبيخ والسب واللوم على تخلفنا وجهلنا بمقام كعبتنا!
فابنة الدكتور تبكي ...!
وجدتها تضمها لتحبس اللؤلؤ المتدفق من عينيها، وتهدهد عليها، وتدعو لها، وترقيها، وتطيب خاطرها بكلمات تهون عليها مصابها، وتقرأ الإخلاص والمعوذتين عليها وفاتحة الكتاب...!
ولم يطل اhttps://lesan3araby.blogs... لمعرفة السبب، لكن استمر كثيرًا للبحث عن فعل نفعله للبرغوث الذي أرق ابنة الدكتور الرقيقة جدًا بقرصة لعينة مميتة ومثيرة للشفقة مهطلة للدموع اللؤلؤية!
والدكتور يؤكد لنا أنه رأى البرغوث الماكر بأم عينه التي ترانا الآن!
وأنه من المستحيل أن ينام في هذه الزريبة التي قطعت أنفاسنا في تهيئتها لمقامه الجليل!
ولو فكر أحدنا في الانتحار لكان أهون عليه من إيجاد المكان الأليق لمقام الدكتور!
فكيف نجد له مكانًا أليق، وهذا هو المكان الوحيد اللائق في بيوتنا؟!
وعجزنا بالإجماع عن الإجابة عن سؤاله المعجز، أنتم كيف تعيشون في هذه الزريبة؟! (مع مد الياء حتى ينقطع النفس)!
لقد ارتكبنا خطأً لا يغتفر، فتبريرنا أن زوجات إخواني نظفن ومسحن، وإحداهن رشت المبيد وهوَّت المكان ... قد باء بالفشل، وترقبت كل زوجة منهن لوم الحماة بعد أن يسافر نبض قلبها، وأول فرحتها.
لكن الدكتور لم يستسلم لحلولٍ تقليديةٍ أرهقت عقولنا، وتنافسنا للوصول إليها، وتنفيذ أوامره التي إن أراد شيئًا فور أن يقول للأمر كن!
إنه الدكتور أبو الأفكار قد قرر أن يفتح باب سيارته الفارهة فيات 128، وفتح الكرسي ونام، بينما ابنته نامت على الكرسي الخلفي (الكنبة)!
وأمام الحل المعجزة الذي لم يخطر على بال المتخلفين من أمثالنا، انصرفنا نجر أثواب الخيبة والفشل، نخجل من أنفسنا مرةً ومن غبائنا مراتٍ!
رحنا نغط في نوم أهل الكهف، وعلا الشخير حتى وصل إلى مسامع الدكتور في عنايته المركزة!
وفي الصباح الباكر شملني الدكتور العظيم بنظرة المعاني المختلطة، فأنا من جرب معه كل الحلول الفاشلة، وكأنه انتظر من طالب جامعيٍ مثلي أن يبلغ بعض ما بلغ معاليه في الفهم والابتكار فقال:
الولد تركني، وراح نام وكأنني مجنون ...!
أحرجني الرجل وأبطل عمرتي التي اجتهدت فيها حتى قرب فجر يوم سفره!
وا حسرتاه!
لقد عدت لنفسي واتهمت حصاتي، ولعلمي أن باب التوبة مفتوح دائمًا، فما كان علىَّ إلا أن أُتبع السيئة الحسنة تمحها، وأجدُّ في العمرات اللاحقة؛ فالعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما.
وقبل أن يبقى لي فقط اليد على الخد، انتبهت أنني جئت إلى النادي كي أكتب عن امرأة حبل بها عقلي وانشغل، فإذا بعقلي يتمخض ويلد برغوث الدكتور!
من الناس من يغشي الأباعد نفعه *** ويشقي به حتى الممات أقاربه
تمت في 18 – 4 – 2014 م
نادي الصفوة ... في العاشر من رمضان
لينك القصة في موقعها على مدونتي