تفاصيل العمل

المكان : غرفة تتسع أرجائها كاتساع السماء وكأنها جناح ملكي فكل شئ بداخلها ينم عن مدى فخامته فهذا السرير الداكن اللون ذو الفراش الوثير الذي يشعرك بالنعاس حين تراه من جلّ جماله ويجعلك تريد أن تلقي بنفسك عليه كأنما تلقي عن كتفيك عناء يومك ، بجانبه قطعتين من الأثاث كل منهما تعلوه وحدة إنارة يدوية وأحدهم عليه بعض الأدوية المبعثرة وكأس من الماء ..يوازي السرير حائط زجاجي تعلوه إحدى الستائر الخفيفة التى تظهر من خلفها خضرة الريف العظيمة وأشجاره وهوائه النقي الذي يشفي الروح من شقائها ..

أمام هذا الحائط يوجد أريكة كبيرة تجلس عليها فتاة في مقتبل عمرها شعرها مجعد ووجها يبدو عليه الذبول وعيناها متورمتان يبدو أنها قضت ليال عديدة في البكاء وبيدها مذكراتها فتسمع طرقات خفيفة عليها فتقوم لتفتح باب غرفتها فتجده والدها العزيز ..

_تعالى يابابا ياحبيبي

*إيه ياقمر هتفضلي حابسة نفسك في أوضتك كدا كتير ؟ هو إنتي جاية من سفرك مخصوص عشان تقعدي في الأوضة ؟

_مليش نفس أخرج برا يابابا مش عاوزه أشوف حد غيرك إنت ياعز باشا

*لو عليا أنا فهتشوفيني يانور هتشوفيني دايما ياحبيبتي .. بس أنتي جيتي

مقابلتيش أي حد خالص .. عاوزك تشوفي منير لأنه أقرب حد ليكي من بعدي يانور ..

_بس أنا لسه يابابا مشبعتش منك

*يابكاشة مش جيتي وكلمتيني ، وحضنتيني كمان عاوزه أيه تاني ؟

_كلمتك ومارديتش عليا يابابا ، حضنتك بس محسيتش بضمتك ليا ، جيت أنا وإنت مشيت .. هو مش إنت يابابا قولتلي عمرك ماهتمشي وتسيبني ؟! ملحقتش أقولك أنا قد إيه بحبك .. ليه يابابا تموت وتسيبني لوحدي ؟

همّت نور لتحتضن أبيها فإذا بطيفه يتلاشى من أمامها وكأنه لم يكن فانهارت نور وجحظت عيناها من هول المفاجأة .. فما أبأس من تتفاجأ أنك تعيش حلما .. ما أبأس أن يتركك كل من لك في هذه الدنيا .. أطرقت نور برأسها ساعة ولم تشعر بشلالات المياة التى تنسال على وجهها ومنبعها عيونها التى تتشح بالأسود من داخلها وخارجها من كثرة بكائها على فقيدها .. ولا ينقطع إطراقها حتى دخلت عليها أم إبراهيم .. ومسحت على رأسها

وقالت لها : يابنتي وحدي الله الحج عز عمره ماهيستريح في مكانه وأنتي عامله في نفسك كدا .. ارضي بقضاء الله يانور عشان يراضيكي ..

فما كان من نور إلا إنها انتحبت وأخفت وجهها بين كتفي أم إبراهيم التي قامت على رعايتها منذ أن كانت في سن الخامسة وهي ليست بمثابة عاملة تعمل لديهم بل بمثابة أم لها بعدما سافرت أمها لألمانيا وعادت أدراجها فقد كانت من أصل ألماني وكانت صغيرة السن ولا تفقه كثيرا من مشاعر الأمومة وواجباتها فتركتها لوالدها وعادت أدراجها ..بعد بضع دقائق هدأت نفس نور قليلا فرفعت أم إبراهيم رأس نور بيديها وقالت لها ربنا يرحمه ياحبيبتي ..

نور : يارب يادادة .. دادة ممكن تكلميلي منير ابن عمي وقوليله عاوزه أشوفه

_بجد والنبي ؟! هوا هكلمه حالا ..

لم تمر ساعة حتى أتى دكتور منير مسرعا فهو الذي يحاول منذ أكثر من شهر أن يلاقي نور وهي التي ترفض أن ترى أحد من بني البشر ..

منير : إزيك يانور وحشتيني خالص

*الحمدلله .. وإنت كمان يامنير عامل إيه ؟

_قلقان عليكي من يوم وفاة عمي وعاوز أشوفك وكل ماأجيلك مش عاوزه تشوفيني ولا تشوفي حد .. أنا مصدقتش لما أم إبراهيم كلمتني أصلا ..

*أسفة بس مكنتش قادرة أقابل حد .. النهاردة بابا اللي قالي أشوفك يامنير

_ربنا يرحمه يانور .. بس ياحبيبتي أنتي عارفه أنا كنت قلقان عليكي إزاي .. أنتي بنت عمي ، وأختي الصغيرة ولا نسيتي إننا إخوات بقى ؟!

*لا منسيتش مقدرش أنسى فضل مامتك عليا لما أمي اللي ولدتني خافت شكل جسمها يتغير فرفضت تمارس واجبات أمومتها وقالت لمامتك إنها تعتني بيا معاك .. أسفه يامنير لو كنت شاركتك في كل حاجة حتى في حليب والدتك ..

أطرقت نور قليلا بعدما قالت كلماتها الأخيرة وظلت تتذكر أيام طفولتها وشبابها وذكرياتها مع والدها وذكرياتها بدون أم طوال حياتها رغم أنها على قيد الحياة فكانت لا تحظى إلا بمكالمة هاتفية كل بضعة أشهر ..

_نوور .. يانووور ..

*هااه

_روحتي فين ؟!

*معاك يامنير ..

_قوليلي بقى إيه اللي خلاكي تفتكريني ؟!

*فكراك دايما والله ، بس أنا النهاردة شوفت بابا وقالي أقابلك .. فأنا بعمل زي ماقالي ..

_طيب ممكن أمارس مهنتي معاكي شوية ، اتفضلي مددي كدا على الشيزلونج دا ..

*بس لو طلعت دكتور أي كلام ومريحتنيش نفسيا هقدم شكوى فيك وأعملك سمعة وحشة إنت حر ..

ابتسمت قليلا ونظر لها منير مشفقا عليها قائلا في نفسه لكم كانت ضحكاتك وروحك مشتعله يانور وكان لك حظا كبيرا من اسمك فمتى أصبحتي منطفئة هكذا ؟!

استلقت نور على الأريكة وسرحت بخيالها وقبل أن ينطق منير ببنت شفة تنهدة تنهيدة زفرت معها من روحها روحا ، وقالت أتعلم يامنير أن حياتي أفسدها رجل هو أخر رجل سيخطر ببال أحدهم ؟!

تزوج أبي بأمي ألمانية الأصل التي لا تملك بين جنبات صدرها قلبا كقلوب البشر فعندما علمت أنها حامل بي لم توفر جهدا في محاولاتها إجهاضي فمنعها والدي متوسلا لها ومراقبا لها طوال أيام حملها وقال لها انجبي لي طفلتي واذهبي حيث شئتي فحياتك ملكك وأنتي حرة من بعد ولادتها ..

ولدت فشاركتك في حليب والدتك لأن أمي حبها لمظهرها وخشيتها على جمالها كانوا أكبر من حبها لابنتها .. وسافرت لألمانيا بعد عام ..

خلفت وراءها طفلة عمرها عام واحد .. منذ هذا الوقت ووالدي أدرك أنه ارتكب خطأ في حقي وهو أنه اختار لي أما مثلها فأراد أن يعوضني فقام بدور الأب و الأم وبدور المكفر عن ذنبه حتى لا أشعر بشئ ناقص في حياتي ..

أتذكر و أنا طفلة كانت تسريحة شعري أجمل فتاة في الفصل لأن والدي أخذ يتعلم كل شئ حتي تسريحات شعر الفتيات فكنت أعجب بنفسي كثيرا لأن لدي والد مثله يفعل لي ماكانت ستفعله أمي وزيادة و زياادة .. وفي سن المراهقة كل فتيات صفي اللواتي ينحذبن للفتيان من كلامهم المعسول كنت أنا من بينهم لا يجذبني أحد فلا يوجد من يدللني أكثر من والدي ولا حتى مثله ..

الذي فعله الحج عز الدين لنور عزالدين هو أنه أدخل البشر جميعا معه في سباق هو وحده الفائز فيه ثم تركني ورحل ..

والدي هو الرجل الذي أفسد حياتي لأنني كلما خيرت بينه وبين شئ اخترته هو ، كلما خيرت بينه وبين شخص اخترته هو ، ولكنه عندما خير بيني وبين الموت اختار الموت ورحل عني ، والأن خيرت بين أني أظل فتاة شاردة الذهن مريضة تهيؤات وأراه أم أختر أنني يتم علاجي من أبي ؟

ماذا أفعل يامنير؟!

شد منير علي يد نور قائلا : ماعهدتك شخص ناقم يانور ولا سوداوي .. خير أبيك بين كل شئ فاختارك وخيرتي أنتي بين كل شئ فاخترتيه ، ومازلتي تتبعين أوامره حتى وهو ليس بيننا ، أنا اليوم معك لأنه طلب منك هذا في حلم أو حتى في خيالك .. هو يريد لك حياة هادئة هانئة ، فما كان عمي عزالدين سوى عز لك .. فأدام الله عزه حتى ولو لم يدم وجوده .. فلا تقطعي أوصال الخير في نفسك .. كلما خُيّر اختارك فاختاري نفسك وفقا لاختياره .. وأكملى ما كانت خطاكي عليه فما أحب ذلك على قلبه ومهدئا لمرقده ..

أكملى حياتك وكل ما أراده لك طوعا له ..

*هعمل كدا عشان بابا يرتاح

بطاقة العمل

اسم المستقل Nosaila A.
عدد الإعجابات 0
عدد المشاهدات 32
تاريخ الإضافة