تفاصيل العمل

أميل للعزلة...

متى كانت أوّل مرةٍ أدركتَ فيها بأن بقاؤك ليس دائمًا؟ مسألة وقتٍ فقط؛ فهذه البلاد ليست بلادك.

"الوطن هو المكان الذي يضمّنا بين أحضانه، هو البيت الكبير الذي تستريح فيه النفس، وتأوي إليه الروح.."

دراستك المفصّلة لمعنى كلمة "وطن" جعلتك في حيرةٍ من أمرك تجاه هويّة موطنك، أهو المكان الذي ولدتَ فيه وتحمل جنسيته؟ أم هو المكان الذي عشتَ فيه، درستَ فيه، وترعرعتَ فيه؟

إنها لمقارنة صعبة؛ فاختيارك إحدى الإجابتين دونًا عن الأخرى ستنقص من معنى الانتماء في داخلك؛ فمن منّا له الحق في تناسي موطنه الأصل الذي يحمل جنسيته وفي الآن ذاته كيف لنا أن نجحد المكان الذي احتوانا وعشنا فيه ذكريات طفولتنا بحلوها ومرّها؟

عد للسؤال الأول.. مدركُ أنت أم ماذا؟ فلحظة رحيلك قد حانت بالفعل.

اربط حزام الأمان وألقِ نظرةً من نافذة الطائرة، لا تدري ستعود لهنا مجددًا أم لا؛ فهذه الرحلة بهدف الاستقرار وليست مجرّد زيارةٍ كسابقاتها.

هبطت الطائرة.. مرحبًا بك في موطنك الأصل،

اشتقتَ لبلدك صحيح؟ انه حنين ما بعد الغربة.

تدري بأن هذا العام مختلف، ليس فقط لأنّك ستستقرّ هنا لأوّل مرة منذ خمسة عشر عامًا مضت وأنت تعيش خارج بلادك، بل أيضًا لأنّه عامك الأوّل كطالبٍ جامعي، هو عامٌ مميّزٌ بالفعل.

مضى أوّل أسبوعٍ وكل شيءٍ بخيرٍ إلى حدٍ ما، اشتقتَ لموطن غربتك ربما ولكنّك استطعتَ التغلّب على هذا فلم يمضِ الكثير من الوقت على كل حال.

اقتربت أخيرّا اللحظة التي ستتوّج بها بداية عامك الجامعي، لحظة اختيار الرغبات الدراسية، بأي جامعةٍ ستلتحق يا ترى؟ تمهّل، لا داعي للاستعجال؛ تقديرك جيّد حتى بعد أن ذهب جزءٌ كبيرٌ منه ضحيّةً لما يسمّى بالمعادلة.

كتبتَ نموذجًا لقائمة رغباتك بعنايةٍ وقد ترأّس القائمة التخصص الذي تحلم به منذ المرحلة المتوسطة، وضعته بكل المحافظات الموجودة في البلاد، لا تمانع الاغتراب في سبيل نيل ما تريد، ولكن... تُفاجأ أمام مكتب التنسيق بأن تقديرك لا يكفي للحصول على هذا التخصص بكل المحافظات! لماذا؟ لأن توزيع الدرجات يختلف بينك وبين طلّاب البلاد كونك كنت مغتربًا، المعادلة وحدها لم تكن كافية لتحطيم حلمك، بل تم أيضًا رفع معايير اختيار التخصصات.

انتهى بك الأمر بكتابة بعض التخصصات التي لم تكن في نموذج قائمتك المثالية -من وجهة نظرك- من الأصل، تلك كانت أولى صدماتك، وقتها بالفعل بدأت تميل للعزلة.

عندما ظهرت نتيجة التنسيق وحدث ما توقعت بأن تم قبولك في الجامعة التي كانت خارج رغباتك الحقيقية أردت أن تتفاءل؛ فأنت مؤمن بأنه: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

توكّلتَ على اللّه واقترب أوّل يومٍ لك كطالب جامعي، إنّه غدًا بالفعل.

بالتأكيد لم تستطع النوم كما يجب، كعادتك في بداية كل عام، خاصة كون هذا العام متميّز، لا تدرِ كيف سيكون أوّل يومٍ لك، هل ستحصل على أصدقاءٍ أم ماذا؟ مجرّد التفكير في ذلك ذكّرك بأصدقائك القدامى، كم تحن لهم و للمدرسة التي جمعتكم!

لا تفرط في التفكير؛ فهذه ليست ليلة حنينٍ لما مضى.

استيقظتَ صباح اليوم التالي، إنها من البدايات الجالبة للتوتر، تجهّزتَ كما يجب ونزلتَ مستعدًا لركوب السيارة التي ستقلّك إلى جامعتك و هنا كانت صدمة أخرى، كدتَ بالفعل تعود أدراجك للمنزل باكيًا! و سيظنّك البعض أخرقًا إن علموا أن السبب فقط أنّك فُجعتَ من الزحام، أصوات السيّارات الجالبة للصداع بالإضافة إلى أنك مضطرٌ لعبور شارعين كي تصل للجهة التي ستستقلّ منها المواصلة التي ستوصلك إلى الوجهة المطلوبة.

ماذا؟ هل تخيّلتَ أنك ستخرج من المنزل لتجد سيارة والدك تنتظرك لتقلّك؟ لا، هذا الخيار لم يعد متوفّرًا الآن ومن هنا تبدأ معضلة المقارنات.

بصعوبةٍ اجتزت خوفك الغريب وعبرت الطريق و بمجرّد أن حالفك الحظ ووجدتَ مواصلة استوعبت أن هذه مرّتك الأولى التي تخرج فيها من المنزل وحيدًا!

الطريق لم يكن مألوفًا لك، أنت بالكاد تحفظ اسم المكان الذي أخبرت به السائق كي تنزل مكملًا الطريق سيرًا لجامعتك، أنت فقط... غير معتادٍ على الكثير من الأمور فمثلًا كل من حولك يتحدثون بلهجةٍ هي لهجتك التي تتحدث بها مع أسرتك، ولكنّك غير معتادٍ على سماعها من حولك في كل مكان، أيضًا الكل يرتدي أزياءً غير التي اعتدت رؤيتها، أنت شخصيًا ترتدي زيًا غير الذي اعتدت مغادرة المنزل به من قبل.

مرّ يومك الأوّل بصداعٍ أليم وحروق عظيمة كادت تتحوّل لضربة شمسٍ لولا ستر اللّه، مر أسبوعك الأوّل على هذا المنوال، غريبة هي الحياة الجامعية، مرهقةٌ جدًا، جميلةٌ جدًا، حسنًا ربما لم ترَ جمالها الكامل حتى الآن وحتى هذه اللحظة كل من تعرّفتَ عليهم لم يجمعك بهم سوى كلمات قليلة، بعضهم علّق على أن طريقتك في الكلام غريبة أو بالأحرى مخارج حروفك غير مألوفة، لتعلّل السبب بأنّك عشت خارج البلاد لفترةٍ ليست بقصيرة.

عانيتَ كثيرًا بسبب مواصلاتك و أحيانًا كنت تتمنّى الجلوس في إحدى زوايا الشارع وتصرخ باكيًا: - "أعيدوني للمنزل"!

لكنّك لن تفعل بالتأكيد؛ لا تريد أن تبدو غريب أطوار.

يمر الوقت ولم تحصل على أصدقاءٍ ثابتين بعد، ليسوا هم السبب، بل السبب أنت كونك لا تريد مغادرة قوقعتك.

في أسبوعك الثّاني تعرّفت على أوّل رفيق، ومعرفتك أنه في نفس قسمك جعلك تتمسك به بيديك وأسنانك كما يُقال، الرفيق جر اثنين و الإثنين كانوا مدخلًا للثالث، حتى وجدتَ نفسك بين مجموعةٍ من الأشخاص ولكن رغم ذلك كنتَ أنت من بينهم الشخص الهادئ، قليل الكلام المنعزل لحدٍ كبير.

اعتدتَ منذ أيام المدرسة أن دائرة صداقاتك محدودة، لكن الوضع الآن أسوأ؛ فأنت عاجزٌ عن التعامل من الأصل وعجزك هذا جعلك تصنع وجهًا من خشب، صمتك و وجهك الخشبي جعلوا من حولك يظنون بأنّك إنسان متكبّر، جادٌ جدًا ولا يحب المزاح بالمرّة، كنتَ تلاحظ هذا وأردتَ بشدة أن توضّح: - لستُ هكذا أنا فقط غير معتادٍ على التعامل مع أحد.. أنا فقط أميلُ للعزلة.

لكنك فضلت السكوت في النهاية؛ فما هو عذرك بالضبط؟ الأمر نفسي ويصعب شرحه بشدة.

مع مرور الوقت اعتدتَ على بعض الأمور ولكن... جاء الحنين، كم تشتاق لبلاد غربتك، كيف لا تفعل وقد عشتَ هناك الكثير من الذكريات، تلك التي آلم قلبك استعادتها وكان الليل يخفي بكاءك.

اكتشفتَ بعد النقاط المهمة في أصدقائك الجدد، بدأتَ تتأقلم عليهم تتفاعل معهم، حاولتَ بقدر المستطاع أن تخرج من فقاعة عزلتك، هم أيضًا اعتادوا عليك وعلى كونك مختلف بشكلٍ جميلٍ بالنسبة لهم؛ فكلامك لا يخلوا من المصطلحات التي تخص البلد الآخر والتي تعجز عن التخلّي عنها؛ فهي والكثير غيرها باتوا جزءًا من شخصك.

ربما في بعض الأحيان كنتَ تفرط في التفكير وتتساءل كثيرًا: - كيف علي أن أتعامل معهم بالضبط؟ هل سيتقبّلون منّي كذا وكذا؟

ونسيتَ أنّك أنت من يحدد هذه الجوانب وليس من حولك.

تُحاول بقدر المستطاع أن تمحو الفكرة التي أخذها عنك من حولك وأن تُظهر جانبك الفكاهي الذي أخفاه انطواؤك، أنت عفويٌ بشكلٍ كبيرٍ وكنتَ تخشى أن تُظهر هذا الجانب منك فتكون محط سخرية من حولك، لكنك اكتشفت أن هذا شيء من الأشياء التي تميّز شخصيّتك.

فيك صفات مميّزة، تُحب رسم الابتسامة على وجوه أصدقائك برغم الحزن الدفين الذي يسكن قلبك،

بلا مبالغة الحزن لا يحتل قلبك بالكامل، لكن مازال هناك جزءٌ فيك يحن لما مضى و مازالت تأتيك ليالٍ تحن فيها لكل شيء، أصدقاءك، مدرستك، حيّك، منزلك وكل التفاصيل الجميلة التي تبكيك على ليلاك.

ربما وجدتَ الكثير من النقاط الإيجابية في موطنك الأصل واعتدتَ على الكثير من الأمور، لكن بعض الأمور اعتدت عليها في موطن غربتك، حتى لو لم تكن الأفضل ولكنك اعتدت عليها فقط و تشتاق لها.

مضى عامٌ حقًا، عامك الأوّل في بلادك الأم مر بحلوه ومرّه، وصلتَ خلاله لدرجةٍ عاليةٍ من التعوّد، تقبلت و تعايشت مع الكثير من الأمور، علاقتك بأصدقائك باتت وطيدة ونجحت أخيرًا في إظهار بعض جوانب شخصيتك التي أخفتها عزلتك، اكتشفت أن أصدقاؤك هؤلاء كان لهم دول كبير في خروجك من حوصلتك، ربما هم لا يدركون أن دورهم كان عظيم في ذلك.

حصلتَ على الكثير من التعليقات مثل "تغيّرتَ كثيرًا"، أنت ترى أن هذا التغيّر إيجابي؛ فقد بت تجيد التعامل أخيرًا.

لا ننسَ القول أنّك اعتدتَ على جامعتك بشكلٍ كبير، ربما بها الكثير من الضغط و الصعوبات ولكن كل الجامعات تضغط على طلّابها بطرقها الخاصة.

ربما أتتك لحظاتٌ قلت فيها "ليتني لم أغترب من الأصل"، لعل بعض الأمور لم تعتد عليها كثيرًا، ويكأن بعض الأشياء التي لم تتقبّلها، ربما مازلتَ تبكي على ليلاك من حينٍ لآخر، لكنّك بلا شك إن قارنتَ نفسك الحالية بنفسك التي بدأت بها هذه المقالة فستجد فروقًا عظيمة.

أنت تغيّرتَ كثيرًا، أنا تغيّرتُ كثيرًا، حتى وإن كنتُ لا أزال من وقتٍ لآخر.... أميلُ للعزلة.

إذن، متى كانت أوّل مرةٍ أدركتَ فيها بأن بقاؤك ليس دائمًا؟

بطاقة العمل

اسم المستقل آيه ص.
عدد الإعجابات 0
عدد المشاهدات 23
تاريخ الإضافة