تفاصيل العمل

يا ابنتى أنتم تخافون الموت لأنكم تجهلونه.. لكن لماذا نخافه نحن وقد عرفناه.. قاسمنا نومتنا على الخيش بالخنادق..كنا نسمع أنفاسه بالجوار كواحِد منا.. يقف معتدلاً فى الصباحِ ليؤدى لنا التحية العسكرية.. ويتكوم ليختبيء معنا خلف الدُشم.. يحتسى معنا الشاى بأوقات عدم الاشتباك.. ويقتسم رغيفه معنا إذا شح الطعام.. يتبادل معنا النكات فى أوقا ِت الهزل.. وكثيرًا ما صافحنا واحدًا واحدًا فى كف زميل يمضى على عجل.

وفى المعارك كان معنا.. يحوم حولنا كطائٍر شفاف؛ يعرف َمن ِمنّا المصاب بإصابة دقيقة.. نراه وقد حط على كتفه..وما نلبث أن نراه وقد سحبه بمنقاره.. صار صديقنا شفافا كطائر الموت ..نتابعهما وهما يحلقان مبتسمين صوب السماء.. مخترقين سحب الدخان الأسود، مخلفين وراءهما بدلة عسكرية تتكىء فوق الرمال على بندقية بينما يتكوم داخلها جسد فارغ..

..........................

البريد لأمثالنا هو روح حقيقية تأتينا من البعيد.. تأتي على فترات بعيدة بحسب الظروف.. هي رائحة الأحباب معبأة في أظرف بيضاء..وحروف الرسائل ليست حروفًا تتجمع لتصبح كلمات ومعاني.. هي بشر وانفعالات وحوارات نابضة بالحياة .. هي عوالم وكائنات وشوارع وبيوت.. هي الأبواب الموصدة على كل الدمع وكل الحنين وكل الفقد..

نحن رجال الحروب أصحاب الجلود الخشنة لم نعد نتأثر بشىء.. تعاملنا مع كل أنواع الرعب وجهًا لوجه.. والدمار وجهًا لوجه.. صارعنا الموت وجهًا لوجه.. شممنا رائحة جلودنا وهي تحترق .. رأينا لحومنا وهي تتطاير كالشظايا والسماء وهي تتوهج بالصواريخ وبالنيران في أشد الليالي ظلمة..لم يعد يؤثر فينا سوى هذه الأظرف البيضاء.. نحن لا نقرأها .. نحن نلمس حروفها حرفًا حرفًا.. نقف بشغف أمام كل فاصلة أو نقطة أو علامة استفهام.. نعيد إنتاج الكلمة الواحدة لمئة مرة.. في كل مرة تحمل معنىً مختلف ومتغير وقابلًا للتأويل.. الكلمة في الرسائل هي الحبيبة التي تجيد فن التعري والفتنة والمراوغة كي تبقينا في شغفٍ دائم للعودة إليها من جديد حاملين نفس اللهفة.. نحفظها بعيدًا عن كل ما يخدشها .. نعانقها قبل النوم وبعد النوم .. نعانقها بأوقات السكون العابرة.. نعيد عناقها بعد كل نجاة من المحرقة.. نحن ننصهر بها.. نذوب بروائحها .. لا نتركها وحيدة بينما نحن في المعارك .. هي بجوار القلب في الجيوب الداخلية .. يدفؤنا دمع الأحباب فيها .. وهي تمنح القلب القدرة على النبض حتى لو نهشه الموت.. هذه الرسائل هي وجهنا الآخر.. الوجه الحقيقي الذي لم يتأذي فينا من هول الخطوب.

..........................

كانت أجسادنا خائرة يستند كلٍ منا على صديقه من اثر المعارك اليومية.. اللون الأصفر يبدو واضحاً على وجوهنا.. لكن الابتسامة كانت حاضرة رغم أننا ُكنا بالأمس تحت النار.. تعلمنا كيف ننسى الأحداث المتلاحقة.. الذاكرة أثقبتها القذائف.. هذى الثقوب تنقى الذاكرة أولاً بأول..

............................

ذهبت لبيتنا القديم.. داعبنى النسيم البارد رغم كوننا بأشد الأيام حرًا.. منذ وطئت قدماى أرض الشارع حتى أدركتُ ذلك المفتقد..كان النسيم حاملًا رائحة تلك الواقفة فى النافذة كزهرة عباد شمس بيوٍم غائم..لم أخبرها بأننى آتٍ لأودعها من جديد.. لكنها كانت تعلم فاتخذت موقعها كالجندى خلف الُدشم.. رغم مرضها ونحول جسدها.. أسندت أوجاعها على العكاز المنتصب بجوارها فأحنى رأسه. إتخذ شكل علامة استفهام ُكبرى.. وإستفهامات العكازات ما أقساها.. هى الأسئلة التى لا إجابات لها دائمًا.. حاولت تصنع التجلد أمام عينيها اللتين تفتشان عن الإجابات داخلى..

............................

سلمت نفسى للقيادة.. تحركت بنا السيارات إلى أماكن الكتائب.. تطوحت السيارات بنا فى منحنيات الصحراء.. مرتفعات نصعدها ووديان ننزلق إليها.. تتخبط رؤوسنا فى بعضها بفعل المدقات كان النهار جافًا و الجو حارقًا ..والشمس تغرز أشعتها الحادة كأظافر من ناٍر داخل أدمغتنا رغم الخوذات التى نرتديها والتى تحولت بفعل الحرارة لأوانى ضغط تكاد تتفجر برؤوسنا.. إستطالت المسافة لأكثر من مئة سنة.. إبتلعنا الطريق الخانق داخل هوة لا قعر لها وما لاح لنا وادٍ.. تصببت جباهنا بالعرق الملتهب و أصابنا الإعياء وخارت قوانا قبل أن نصل لوحدتنا.

....................

أصبحنا بالمواجهة دون غطاء جوى فوقنا.. تناثرت السماء من فوقنا كشظايا مشتعلة.. تشققت الأرض عن الدماء والخراب واللهب.. ابيدت صفوف كاملة من الجنود المصريين أمام أعين الجميع.. تلاشت أجسادهم جميعًا أو تبخرت.. جميعنا دخل المحرقة.. لم نخرج منها ونحن على مايرام.. ُكنا نموت مئة مرة فى الميتة الواحدة.. فمن تدلت أحشاؤه ومن طار رأسه ومن تطير ذراعاه أو ساقاه.. يزحفون فوق الرمال الساخنة فى درجة حرارة تقترب من الخمسين.. يهربون من المدفعية الثقيلة دون سيقان تحملهم فيجرون أجسادهم المثخنة جرًا فتحصدهم النيران..رجال تفقد عينيها من شدة الوهج.. رجال تطير ثم تهبط للأرض بقايا من الأشلاء الممزقة.. لم نستطع نجدة أحد نحن الأطباء. كل الإصابات كانت مهلكة.. فلا معجزة ترد الطائر الذبيح بعد الذبح

.. لم يكن الركض أحد الخيارات المتاحة أمام الوجوه المملحة بالتعب والمحاصرة بالمدفعية الثقيلة من كل إتجاه.. كنا مستلقين فوق حشوات خشنة من الرمال الساخنة والشظايا الملتهبة وفوارغ الطلقات الحارة التى تنتصب تحتنا كأسنة المديات.. تمزق كل شىءٍ فينا.. كل شىء فينا كان يُدمي، كفوفنا و ُركبنا وسيقاننا ووجوهنا.. ُكنا نزحف بين حدين من الرصا ِص كالسابحين فى الأوحال.. نتعرج كالثعابين كى نتجنب إصطيادنا.. الطائرات فوقنا تصنع ممرات من النيران.. كل ممر به الكثير من شبكات النار المتقاطعة والتى تحرق وجه السماء.. السماء التى اتخذت لون الدم ببضع دقائق.. ُزلزلت الأرض تحتنا بفعل دوى المدافع وهدير القذائف والقنابل العابرة.. إلتصقت أجسادنا بملابسنا بفعل الحرارة وإنهمار العرق.. غامت الرؤية تمامًا بكل هذا الغبار والغازات، وإختنقت الوجوه فى دوائر الدخان.. باتت أنفاسنا ثقيلة كفحيح مختنق.. إشتد علينا العطش.. نفذت كل المياه التى نحملها بزمزمياتنا.. تبخرت حتى من جلودنا.. وجفت حلوقنا حتى تشققت حناجرنا..و تكلست كل تشققاتها بالملح. ظهرت كل ثقوب مركبنا دفعة واحدة وانعدمت كل فرص النجاة بخضم أمواج هذى المعمعة.. وبتنا على أبواب الجنة المحترقة نراقب كثبان الرماد و ننتظر انطلاق رصاصة القناص.

من رواية رسائل" الرجل ذو النصف وجه"

بطاقة العمل

اسم المستقل Awatef N.
عدد الإعجابات 1
عدد المشاهدات 56
تاريخ الإضافة
تاريخ الإنجاز